القلعة نيوز:
بقلم: د. حنان عبد الله الغامدي
الرياض
متخصصة في تقنيات التعليم
لم يعد التعليم اليوم ممارسات تقليدية محصورة داخل جدران الصفوف الدراسية، ولا عملية جامدة تُدار بمنطق التلقين ونقل المعرفة من معلم إلى متعلم، بل أصبح منظومة متكاملة تتقاطع فيها المعرفة مع التقنية، ويتداخل فيها البعد الإنساني مع التحول الرقمي، وتتشكّل من خلالها ملامح الإنسان القادر على التعلم المستمر ومواجهة متغيرات العصر. وفي هذا السياق التحولي، تبرز منصة مدرستي بوصفها واحدة من أهم التجارب الوطنية التي لم تكتفِ برقمنة التعليم، بل أعادت صياغة فلسفته، وأعادت ترتيب أدوار أطرافه، وفتحت آفاقًا جديدة لفهم أعمق لمعنى التعلم في القرن الحادي والعشرين.
إن النظر إلى منصة مدرستي بوصفها مجرد منصة تعليم إلكتروني يختزل كثيرًا من قيمتها الحقيقية؛ فهي في جوهرها مشروع وطني استراتيجي انطلق من وعي عميق بأن التعليم هو الاستثمار الأكثر استدامة في رأس المال البشري، وأن التقنية ليست غاية بحد ذاتها، بل وسيلة ذكية لإعادة بناء التجربة التعليمية على أسس أكثر مرونة وكفاءة وعدالة. وقد تجلّى هذا الوعي في تصميم المنصة الذي تجاوز فكرة الصف الافتراضي إلى بناء بيئة تعلم رقمية متكاملة تجمع بين المحتوى، والتفاعل، والتقويم، والمتابعة، والدعم، في إطار واحد مترابط قائم على نظريات التعلم، ويخدم نواتج تعلم واضحة وقابلة للقياس.
ومن منظور تقنيات التعليم، تمثل منصة مدرستي انتقالًا نوعيًا من التعليم القائم على نقل المعرفة إلى التعليم القائم على تصميم الخبرة التعليمية. فقد تغيّر دور المعلم بصورة جوهرية؛ إذ لم يعد المصدر الوحيد للمعلومة، بل أصبح مصممًا للتعلم، ومهندسًا للتجربة التعليمية، يختار الأدوات، وينوّع الاستراتيجيات، ويبني الأنشطة الرقمية التي تثير التفكير، وتحفّز التفاعل، وتراعي الفروق الفردية بين المتعلمين. كما أسهمت المنصة في تمكين المعلم من هذا الدور الجديد من خلال ما وفرته من أدوات رقمية، وموارد تعليمية، وأنظمة متابعة تساعده على اتخاذ قرارات تعليمية مبنية على بيانات وتحليلات حقيقية.
وفي المقابل، أعادت منصة مدرستي تشكيل صورة المتعلم ذاته؛ فلم يعد المتعلم متلقيًا سلبيًا ينتظر المعلومة، بل أصبح محور العملية التعليمية وشريكًا فاعلًا فيها. إذ أتيحت له فرص التعلم الذاتي، ومصادر المعرفة المتنوعة، وأدوات البحث والتفاعل، فأصبح قادرًا على إدارة تعلمه، ومتابعة تقدمه، وتحمل مسؤولية أدائه. وهذا التحول في دور المتعلم يمثل أحد أهم مكاسب المنصة، لأنه يعزز مهارات القرن الحادي والعشرين، مثل التعلم الذاتي، والنقاش، والتفكير الناقد، وحل المشكلات، والقدرة على التكيف مع المستجدات.
وتكمن إحدى أهم نقاط القوة في منصة مدرستي في ارتباطها الوثيق بمفهوم نواتج التعلم، وهو المفهوم الذي أعاد توجيه البوصلة التعليمية من التركيز على المدخلات إلى التركيز على المخرجات. فلم يعد النجاح التعليمي يُقاس بإكمال المنهج أو الالتزام بالخطة الزمنية فحسب، بل بمدى تحقق نواتج التعلم لدى المتعلم، معرفيًا ومهاريًا وقيميًا. وقد دعمت المنصة هذا التوجه من خلال تنويع أدوات التقويم، وتوفير التغذية الراجعة الفورية، والمؤجلة،وإتاحة الفرصة للمعلم لمتابعة أداء طلابه بدقة، ومعالجة جوانب القصور في وقت مبكر، بما يسهم في تقليص الفاقد التعليمي ورفع مستوى التحصيل.
وعلى الرغم من الطابع التقني لمنصة مدرستي، إلا أنها لم تُقصِ البعد الإنساني من العملية التعليمية، بل أعادت له حضوره بصورة أكثر نضجًا. فقد أسهمت في تعزيز التواصل بين المعلم وطلابه، وفتحت قنوات فاعلة للتواصل مع أولياء الأمور، وأعادت بناء الشراكة بين المدرسة والأسرة على أسس من الشفافية والمتابعة المستمرة. كما حافظت على جوهر العلاقة التربوية التي تقوم على الدعم والتحفيز وبناء الدافعية، وهو ما يؤكد أن التقنية حين تُوظف بوعي لا تلغي الإنسان، بل تعزّز أثره وتوسّع نطاق تأثيره.
ولا يمكن فصل تجربة منصة مدرستي عن السياق الوطني الأشمل الذي تنطلق منه، فهي تجسيد عملي لمستهدفات رؤية المملكة 2030 في بناء مجتمع معرفي، والتحول الرقمي، ورفع جودة التعليم. فالمنصة تمثل نموذجًا وطنيًا في توظيف التقنية لخدمة التعليم، وتسهم في إعداد أجيال قادرة على المنافسة عالميًا، دون أن تفقد ارتباطها بهويتها وقيمها. وهي بذلك لا تؤدي وظيفة تعليمية فحسب، بل تؤدي دورًا تنمويًا وثقافيًا يعكس طموح الوطن ورؤيته للمستقبل.
ختاماً، أن القيمة الحقيقية لمنصة مدرستي لا تكمن في بنيتها التقنية وحدها، بل في التحول الثقافي والتربوي الذي أحدثته في وعي المعلم والمتعلم والمؤسسة التعليمية على حد سواء. فقد دفعت الجميع إلى إعادة التفكير في مفاهيم راسخة، وكشفت أن التطوير الحقيقي يبدأ من تغيير طريقة التفكير قبل تغيير الأدوات. كما أكدت أن التعليم الرقمي الناجح ليس هو الأكثر تعقيدًا تقنيًا، بل الأكثر وضوحًا في الرؤية، والأعمق أثرًا في بناء الإنسان.
إن منصة مدرستي ليست تجربة ظرفية ارتبطت بمرحلة زمنية معينة، بل هي مسار إصلاحي طويل المدى يعكس إيمان الدولة بأن التعليم هو حجر الأساس لأي نهضة حقيقية. وهي شهادة على أن الاستثمار في التعليم الرقمي، حين يُدار بعلم وخبرة ورؤية استراتيجية، قادر على إحداث تحول مستدام يتجاوز حدود الصفوف الدراسية ليطال المجتمع بأكمله. ومن هنا، يمكن القول إن منصة مدرستي لم تصنع تعليمًا رقميًا فحسب، بل أسهمت في صناعة وعي تعليمي جديد، يرى في التعلم مشروع حياة، وفي التقنية شريكًا واعيًا في بناء المستقبل.




