القلعة نيوز:
تأتي زيارة الرئيس السوري أحمد الشرع واشنطن في سياق مساعٍ أميركية تهدف إلى إعادة هندسة المنطقة التي شهدت اهتزازات كبيرة في العامَيْن الأخيرَيْن، من حصيلتهما سقوط قوىً وبروز أخرى. ومن ثم، ظهور ديناميكيات جديدة وتفاعلات مختلفة تسعى واشنطن إلى ضبطها وتوجيهها لمصلحتها استراتيجياً واقتصادياً. تبدو الزيارة شكلاً من الاستدعاء، بل الاستدعاء المُستعجَل، ويدلّ على ذلك حقيقة أن الزيارة لم تكن مبرمجةً، وأُعلنت مفاجئة، ما يعني أن ثمّة مستجدّات طرأت في أجندة السياسة الأميركية في المنطقة، أو أن طبخةً ما نضجت، ويتحتَّم التهامها قبل أن تبرُد أو تطرأ متغيّرات جديدة قد تغيّر من نكهتها وقوامها. تأتي الزيارة تحت عنوان توقيع سورية اتفاق الانضمام إلى التحالف الدولي لمحاربة الإرهاب، وستكون لهذا الأمر موجبات عديدة، أولها استدخال سورية ضمن الإطار العام للتحالف الدولي، وربطها بالبرنامج العسكري والاستخباري في المنطقة، وحصولها تالياً على خدمات استخبارية وتكنولوجية. بمعنى أن سورية ستدخل في إطار المنظومة الأمنية العسكرية الأميركية في المنطقة، وتشمل دولاً عديدة، الأمر الذي من شأنه ترسيخ شبكة الأمان للنظام السوري الجديد، عبر إدراجه ضمن إطار تحالف كبير، ما يُضعف أوراق الفاعلين الآخرين الذين راهنوا كثيراً على الخارج لتحقيق أهدافهم في شرقي سورية وجنوبيها. انحازت سورية نهائياً إلى السياسة الغربية في المنطقة، بقيمها ومصالحها كلّها بيد أن هذا الأمر لم يكن في حاجة إلى زيارة الرئيس السوري، ولا توقيعه اتفاقاً رسمياً في البيت الأبيض، فمثل هذه القضايا غالباً ما يجري التفاهم بشأنها ضمن مستوياتٍ أدنى في الدولة، مثل وزارة الدفاع وإدارة الاستخبارات، وهي في الغالب قضايا ذات طابع تقني لانطوائها على تفصيلاتٍ عديدةٍ من نوع الارتباط ضمن إطار عملياتي محدّد، والانخراط في نسق تشغيلي ضمن بنية وهيكلية تفصيلية تحدّد، ليس المهام والعمليات والقوانين الناظمة فقط، بل طبيعة الأدوات التي ستُستخدم ونوعيتها. أمّا العامل السياسي فهو مُتضمَّن سلفاً في ثنايا هذه العملية، بمعنى أن سورية قد انحازت نهائياً إلى السياسة الغربية في المنطقة، بقيمها ومصالحها كلّها. لم يكن هذا الأمر خافياً، وليس مستغرباً في ظلّ النهج الواقعي للسياسة السورية، التي تدرك أن لواشنطن تأثيراً كبيراً في مستقبل الوضع السوري، سواء لوجودها في شرق البلاد، أو لما تملكه من تأثير في عملية إنعاش الاقتصاد السوري والإعمار. على ذلك، المرجّح أن الزيارة تتعلّق بهدف آخر، وهو في الغالب الاتفاق الأمني مع إسرائيل. ويبدو أن إدارة ترامب المنخرطة في ملفّات الصراعات في المنطقة، من لبنان إلى ليبيا والسودان، وترغب في تحقيق إنجازاتٍ مهمّة تعيد بعث الحيوية في الدور الأميركي عالميّاً، ترغب في أن يكون الملفّ السوري، بعد غزّة مقدّمة لتقديم أوراق اعتمادها لحلّ القضايا الأخرى، ولا سيّما أنها باشرت التحرّك في الملفّ السوداني عبر طرح خطّة لوقف النار، وتقوم بمساعٍ مماثلةٍ في الساحة الليبية، فضلاً عن نشاطها المكثّف في لبنان للتوصّل إلى اتفاق أمني بين بيروت وتل أبيب. السؤال المهم: كيف يمكن للشرع التوافق مع الرؤية الأميركية للسلام في المنطقة، التي لها مقاييس ومعايير ومبادئ ومنطلقات لا تتناسب مع ما تريده سورية أو ترى أنه يضمن لها حقوقها وسيادتها وكرامتها؟... ما تطرحه إدارة ترامب تثبيتٌ للواقع أكثر من معالجة جذور الأزمة. وما تريده واشنطن ترحيل القضايا الإشكالية، ولا سيّما عودة الجولان لسورية، وحتى الانسحاب من الشريط الحدودي الذي احتلته إسرائيل بعد سقوط نظام الأسد، وتفضّل إدارة الشرع التوصّل إلى اتفاق أمني محدّد يضمن انسحاب إسرائيل من المناطق المحتلة أخيراً، وضمان عدم التدخّل في الشؤون الداخلية السورية، عبر دعم مجموعات وأطراف تهدّد وحدة سورية، في حين أن إسرائيل تريد تطبيعاً شاملاً ترى أن فرصته متوفّرة بفضل ما تملكه من أوراق ضغط تمنحها الحصول على اتفاق مريح. دخول سورية في إطار المنظومة الأمنية العسكرية الأميركية في المنطقة يُضعف أوراق الفاعلين الآخرين مشكلة مشروع السلام الذي تطرحه واشنطن أنه غير استراتيجي، بقدر ما هو عابر ووقتي، يسعى إلى تحقيق أهداف تخدم النفوذ الأميركي، ومشكلته الأخرى أنه متطابقٌ، إلى حدّ بعيد، مع التصوّر الإسرائيلي للسلام، بعد إعادة هندسة خريطة جنوبي سورية، ومحاولة تثبيت معادلة حديدية (وأبدية) باعتراف السلطة الشرعية السورية، بمعنى سلام يُقرّ بموازين القوى القائمة الآن، ولا يعترف بالتوازنات السياسية المطلوبة لإدامة السلام في المنطقة. سيواجه الشرع معادلة معقّدة، فترامب الذي يملك أوراقاً عديدة في مواجهة الشرع، من الاقتصاد إلى التأثير في الوضع الداخلي السوري عبر وجود القوات الأميركية في شرقي سورية، يعتبر أن انخراط دمشق في مسار السلام الذي صنعه مسألةٌ شخصيةٌ، وسيعتبر الرفض السوري لها تحدّياً موجهاً إليه بشكل مباشر، في حين أن مبادرته، أو مشروعه للسلام، المفصّل والجاهز، لا يأخذ بالاعتبار حساسية وضع إدارة الشرع في سورية، ولا حدود قدراتها على الانخراط في هذا المسار وفق المواصفات والمعايير التي تحكمه. لن تكون زيارة الشرع واشنطن سهلةً، ولن تعود بالثمار التي يعتقد كثيرون أنه سيملأ بها حقائبه عائداً إلى دمشق، بل سيخوض مغامرةً قاسية، تكيّف مع استراتيجية ترامب أو مانَعها.




