يتضمن الدستور الاردني،كما هي أغلب دساتير الدول الحديثة، الاشارة صراحة الى سلطات ثلاث هي: السلطة التـشريعية، الـسلطة التنفيذيـة، والسلطة القضائية، وهذه هي ابرز المكونات المؤسسية للدولة، وهناك جدل واسع حول فصل السلطات وآفاق التعاون بينها والصلاحيات المنوطة بكل منها وهذا ليس مدار بحثنا اليوم، كما اننا لن نتطرق الى تقييم مناقشات مجلس النواب حول قانون الموازنة العامة لعام 2020 والتي اختتمت الاسبوع الماضي باقرار الموازنة، وانما سنتناول الاسس المؤسسية والتشريعية والافاق المتاحة امام مجلس النواب للقيام بدور رقابي فعال يساهم في تطور الدولة وفي التغلب على الصعوبات التي تواجه الوطن والمواطن.
يقوم مجلس النواب بوظيفتين اساسيتين هما الوظيفة التشريعية والتي تمارس من خلال مناقشة ودراسة القوانين التي تحيلها الحكومة إلى مجلس النواب أو من خلال اقتراح عشرة نواب او أكثر لقانون ما، أما الوظيفية الرقابية فهي تتم عبر ادوات وآليات حددها النظام الداخلي للمجلس مثل السؤال والاستجواب... الخ، ولها دور بارز في مراقبة ومساءلة السلطة التنفيذية، وهذه الوظيفة لا تقل في أهميتها عن الوظيفة التشريعية بل وتساهم ايضاً في تنفيذ السياسات بطريقة فعالة وبما يحقق الاهداف المتوخاة ومعالجة الاختلالات والدفاع عن مصالح المجتمع وتصحيح المسار حيثما لزم ذلك، أضافة لذلك تقوم الرقابة الفاعلة بدور حيوي في تعزيز الشفافية عبر مناقشة اعمال السلطة التنفيذية وعرضها امام المواطنين، كما تساهم ايضاً في تعزيز وترسيخ حكم القانون، ومن باب الانصاف لا بد ايضاً من الاشارة الى ان مجلس النواب اصبح، وبفعل العديد من العوامل التي لا مجال للاسهاب فيها، يقوم بوظيفة خدماتية وهي اصلاً ليست ضمن اختصاصه، فالحكومة هي المسؤولة عن القيام بهذه الوظيفة،ولا شك بان هذا الامر قد تكون له اثار سلبية على الاداء النيابي المتعلق بالوظائف الاساسية للمجلس، فتشتيت الجهود غالباً لا يؤدي لنتائج ايجابية وقد يستلزم احياناً بعض التنازلات.
وفي الجانب المالي يؤدي مجلس النواب دوراً هاماً عبر الوظيفة التشريعية وذلك باقراره لقانون الموازنة العامة وقانون موازنات الوحدات الحكومية اضافة الى القوانين الاخرى المتعلقة بالشأن المالي، واخر لا يقل أهمية عبر الرقابة على اداء الحكومة في هذا الجانب، ومن خلال التكامل في اداء هذه الادوار يستطيع مجلس النواب ان يقوم بخطوات ملموسة وعلى قدر كبير من الاهمية تساهم في تحسين الاداء الاقتصادي، ومنع الهدر والاسراف في النفقات المختلفة، ليس هذا فقط وانما يمكن لمجلس النواب ايضاً ان يعمل على تحديد الاولويات التنموية عبر التعاون مع السلطة التنفيذية، كما يمكن للمجلس ايضاً ان يساهم في تصويب الاداء المالي عبر ذراعه الرقابي المتمثل في ديوان المحاسبة.
وقبل بحث الدور الرقابي لمجلس النواب فيما يتعلق بقانون الموازنة العامة وموازنات الوحدات الحكومية لا بد من الاشارة الى اهمية هذه القوانين ودورها الاساسي والمؤثر على مختلف جوانب الاقتصاد الوطني، فالموازنة العامة هي الخطة المالية السنوية للدولة ومن خلالها تتحدد الايرادات والنفقات المتوقعة خلال عام كامل ما يعني انها تتضمن سياسات ضريبية وسياسات للانفاق العام تحدد الاولويات التي تؤثر على مختلف جوانب حياة المواطنين ومستوى الخدمات التي تقدم لهم، ناهيك عن اثارها المباشرة وغير المباشرة على النمو الاقتصادي وتوليد فرص العمل، وعملياً فان اقرار الموازنة، مع مراعاة التشريعات الاخرى، يشكل تصريحاً من ممثلي الشعب للحكومة ان تقوم بجباية الايرادات وصرف النفقات وفق الاوجه المحددة، ولا يمكن النظر للموازنة العامة على انها مجموعة من الجداول والارقام فهي اوسع وأعمق من ذلك بكثير،حيث انها تعبر عن مجموعة من السياسات والاجراءات والخيارات التي تشمل مختلف جوانب النشاط الاقتصادي للدولة وهي وسيلة مؤثرة لتحقيق العملية التنموية تعكس فلسفة لتطوير الاقتصاد الوطني وتحديد ادوار الجهات الفاعلة بما في ذلك القطاع العام والقطاع الخاص وتعبر ايضاً عن القدرة على مواجهة المتغيرات والمستجدات المستقبلية وهي تلعب دوراً هاماً في تحريك وتعزيز عجلة الدورة الاقتصادية والنشاط الاقتصادي بشكل عام، وتحفيز القطاع الخاص على الانتاج والمبادرة والاضطلاع بدوره التنموي ويمكن القول ان الموازنة تعتبر من أهم الوثائق الاقتصادية للدولة التي تترجم سياساتها العامة وأولوياتها وهي ذات اثر كبير على مختلف شرائح المواطنين.
أوضحت النصوص الدستورية دور مجلس النواب فيما يتعلق بالموازنة العامة وموازنات الوحدات الحكومية في المادة 112 من الدستور والتي نصت على:
- يقدم مشروع قانون الموازنة العامة ومشروع قانون موازنات الوحدات الحكومية إلى مجلس الأمة قبل ابتداء السنة المالية بشهر واحد على الأقل للنظر فيهما وفق أحكام الدستور، وتسري عليهما نفس الأحكام المتعلقة بالموازنة في هذا الدستور، وتقدم الحكومة الحسابات الختامية في نهاية ستة شهور من انتهاء السنة المالية السابقة.
- يقترع على الموازنة العامة فصلاً فصلاً.
- لا يجوز نقل اي مبلغ في قسم النفقات من الموازنة العامة من فصل الى آخر الا بقانون.
- لمجلس الامة عند المناقشة في مشروع قانون الموازنة العامة او في القوانين المؤقتة المتعلقة بها ان ينقص من النفقات في الفصول بحسب ما يراه موافقاً للمصلحة العامة وليس له ان يزيد في تلك النفقات لا بطريقة التعديل ولا بطريقة الاقتراح المقدم على حدة على انه يجوز بعد انتهاء المناقشة ان يقترح وضع قوانين لاحداث نفقات جديدة.
- لا يقبل اثناء المناقشة في الموازنة العامة اي اقتراح يقدم لالغاء ضريبة موجودة او فرض ضريبة جديدة او تعديل الضرائب المقررة بزيادة او نقصان يتناول ما اقرته القوانين المالية النافذة المفعول ولا يقبل اي اقتراح بتعديل النفقات او الواردات المربوطة بعقود.
- يصدق على واردات الدولة ونفقاتها المقدرة لكل سنة مالية بقانون الموازنة العامة على انه يجوز ان ينص القانون المذكور على تخصيص مبالغ معينة لاكثر من سنة واحدة.
ومن الواضح ان هذه النصوص تتيح لمجلس النواب ان يقوم بدور فاعل لضمان التخصيص الاكفأ للموارد وتجنب الهدر وتوفير الظروف الملائمة لضمان حسن انفاق الموارد المالية وكفاءة تحصيل ايرادات الدولة، وعادة ما يتم تحويل قانون الموازنة الى اللجنة المالية التي حدد النظام الداخلي مهامها كما يلي:
- دراسة قانون الموازنة العامة وقانون موازنات الوحدات الحكومية والرقابة على تطبيقها وأية مقترحات تتعلق بها.
- دراسة الحسابات الختامية للوزارات والدوائر والمؤسسات والوحدات الحكومية ورفع التوصيات بشأنها للمجلس.
- دراسة تقارير ديوان المحاسبة وابداء التوصيات بشأنها.
- دراسة القوانين المالية التي لها علاقة بزيادة الواردات أو النفقات أو إنقاصها.
- دراسة المديونية العامة للدولة وتقديم الاقتراحات اللازمة بشأنها.
- دراسة موازنة امانة عمان الكبرى وموازنات بلديات الفئة الأولى.
ومن المهام اعلاه يتضح ان هذه اللجنة يمكن ان تقوم بتادية دور رقابي هام وفعال ليس فقط فيما يتعلق بقانون الموازنة العامة وموازنات الوحدات الحكومية وانما ايضاً بمختلف الجوانب المتعلقة بالمالية العامة للدولة، ولعل البداية تكون من خلال التأكد من ان اسلوب اعداد الموازنة واطارها التشريعي وما تتضمنه من بيانات ومعلومات تشكل قاعدة ملائمة وشفافة لمزيد من العمل المستقبلي لرقابة فاعلة،خاصة وان مجلس النواب ولجنته المالية ليس له دور في اعداد الموازنة وصلاحياته مقيدة وفق ما تمت الاشارة اليه في النص الدستوري، ولكن من الواضح ان اللجنة المالية يمكن ان تقوم بدور رقابي هام ليس فقط خلال مرحلة اقرار الموازنة وانما ايضاً خلال مرحلة التنفيذ ومرحلة الرقابة اللاحقة بعد انتهاء السنة المالية.
واذا تناولنا المهام المبينة اعلاه من منظور رقابي يمكن ان نحدد ما يمكن القيام به خلال المراحل المختلفة، مع الاخذ بعين الاعتبار ان رقابة النواب المالية على اعمال السلطة التنفيذية ممثلة بالحكومة هي رقابة شاملة يفترض ان تراعي انها هي الجهة المخولة باقرار القوانين المتعلقة بالضرائب والايرادات المختلفة، اي ان الرقابة تبدأ قبل قانون الموازنة، ومن خلال اقرار الموازنة يمكن للمجلس ان يساهم وفق صلاحياته الدستورية بتحديد الاولويات الوطنية، والتأكد من ان التخصيص يتم بشكل ملائم ويراعي متطلبات ضبط الانفاق وتجنب الهدر وسوء الاستعمال، أما خلال مرحلة التنفيذ فتشكل رقاية ديوان المحاسبة وتقاريره السنوية والدورية حجر الاساس في هذا المجال، فديوان المحاسبة هو الذراع الرقابي لمجلس النواب ودوره اساسي ومحوري في منظومة الرقابة المالية، وقد تكون لنا عودة بالتفصيل لهذا الدور نظراً لأهميته، أما دراسة الحسابات الختامية فهي توفر للنواب،ولو نظرياً، امكانية الرقابة اللاحقة لاداء الحكومة في مختلف المجالات، والمشكلة ان هذا الجانب بالذات غير مفعل بالرغم من أهميته في تعزيز الثقة باداء السلطتين التشريعية والتنفيذية في اُن معاً،خاصة اذا علمنا ان التقديرات في قوانين الموازنة والنتائج الفعلية في الحسابات الختامية غالباً ما تشهد تباينات واضحة،فعلى سبيل المثال وصلت نسبة الايرادات المحلية الفعلية مقارنة بالمقدرة لعامي 2012و2013 الى حوالي 96%، وانخفضت هذه النسبة عامي 2016و2017 الى أقل من 92%، وواصلت الانخفاض في عام 2018 الى حوالي 89%،وعلى نفس النسق انخفضت الايرادات المحلية (اعادة تقدير)خلال العام الماضي الى أقل من 88% من المقدر، وهذا يشير الى انه لم تتم دراسة النتائج الفعلية والبناء عليها بشكل ملائم، علماً بانه قد تلجأ السلطات التنفيذية أحياناً للمبالغة في جانب الايرادات بسسب عدم القدرة على التنبؤ الدقيق بالتطورات الاقتصادية والمالية، واحياناً اخرى بهدف اظهار العجز بصورته غير الحقيقية مما يتيح لها التوسع في الانفاق ومن ثم زيادة الدين العام أو تقليص النفقات الرأسمالية، كما ان دراسة الحساب الختامي للدولة، والذي يتضمن كافة البيانات التي تعكس الإيرادات والنفقات الفعلية إضافة إلى المركز النقدي الذي يبين موجودات الدولة ومطلوباتها، يتيح لمجلس النواب فرصة الرقابة اللاحقة بعد انتهاء عملية التنفيذ للموازنة حيث يتم التحقق من أن النفقات قد تمت في حدود المخصصات المرصودة ووفقا للقوانين وأن الإيرادات المتوقعة قد تم تحصيلها وإيداعها في الخزينة، وهذا يتيح ايضاً لمجلس النواب الاطلاع على ما حصل من أخطاء أو تجاوزات، ويتم انجاز الرقابة اللاحقة بعد انتهاء السنة المالية وصدور الحساب الختامي، ويمكن ان يترافق مع مناقشة تقرير ديوان المحاسبة في حال تقديمه بوقت مبكر، ولا بد من الاشارة الى ان الحساب الختامي يعتبر وسيلة فعالة وأداة تمكن النواب من القيام بدور رقابي فاعل على اداء السلطات التنفيذية ومدى تنفيذها للبرامج والمشاريع المدرجة في موازناتها مما يعد مؤشراً لكفاءة وفاعلية هذه الجهات، كما ان الحسابات الختامية تتيح المجال لبناء موازنات للسنوات التالية قائمة على اسس واقعية مما يشكل مساهمة هامة في ضبط وتصحيح الانحرافات وانتهاج السياسات العملية ذات الاثار الايجابية، ويمكن ان يشكل المزيج المكون من تقرير ديوان المحاسبة والحسابات الختامية مدخلاً لتوضيح بعض الجوانب الهامة مثل كيف تم انفاق المال العام وما مدى فعالية ونتائج ذلك الإنفاق، وهل تم تحقيق الاستفادة المثلى من الاموال المنفقة، وكيف يمكن القيام بالاجراءات التصحيحية الملائمة كل هذا يساهم في الحد من الفساد وإساءة استخدام المال العام، وبدلاً من ان يتحول اقرار الموازنة العامة الى موسم للخطابات لا بد ان يفكر اعضاء مجلس الامة جدياً في تحويله الى فرصة لمناقشة قضايا الاصلاح المالي والاقتصادي وسبل النهوض بالاقتصاد الوطني ومواجهة المصاعب التي نعاني منها، وهذا الامر يتطلب توفر المقومات اللازمة، فمن باب العدالة لا بد من الاقرار بان هناك العديد من المصاعب التي تواجه النواب في مهمتهم لتفعيل رقابة المال العام، فالامور المالية وخاصة الحسابات الختامية والموازنة العامة والاثار المتوقعة للتشريعات المالية كلها ذات صبغة تخصصية وتحتاج لمعرفة واسعة ومختصة قد لا تتوفر لبعض اعضاء مجلس النواب، مما يتطلب توفر كوادر مساعدة مؤهلة تدعم النائب وتزوده بالتحليلات والدراسات والاقتراحات المناسبة، ويكتسب هذا الامر حساسية خاصة للجان المتخصصة في اطار المجلس، وبالرغم من ان هناك من يعتقد ان المشكلة الاساسية تأتي من طبيعة القانون الانتخابي وصلاحيات اللجنة المالية وعدم نضج الحياة السياسية والحزبية،الا ان هناك ايضاً جوانب تشريعية واجرائية لا بد من التعامل معها لتحسين مستوى رقابة مجلس النواب وخاصة ما يتعلق بالتشاور مع المجلس في مرحلة اعداد الموازنة وتمكينه من اقرار او المصادقة على الحسابات الختامية، كما ان توسيع باب الحوار بخصوص الموازنة بحيث يتم اشراك مؤسسات المجتمع المدني في هذا الحوار وهذا يمكن ان يشكل نقلة نوعية في تعزيز رقابة المال العام ورفع مستوى التفاعل المجتمعي مع هذا الموضوع، بما في ذلك نشر الوعي الرقابي، وتعزيز الشفافية والمساءلة وفتح المجال أمام حرية الصحافة ووسائل الاعلام المختلفة، وقد يكون من المناسب ان تختص احدى لجان مجلس النواب بمتابعة تنفيذ بنود الموازنة العامة وموازنة الوحدات الحكومية بشكل مستمر وأولاً باول، وعلى ان تكون بتنسيق مستمر مع ديوان المحاسبة، وبذلك يمكن تحقيق هدفين في اُن معاً توثيق العلاقة بين النواب وديوان المحاسبة ومتابعة المخالفات التي يشير اليها الديوان في وقت مبكر.
الرأي