بقلم مها الصالح.
الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون, الآباء يلهُون والأبناء يُعذَبون, الآباء يسكرُون والأبناء يعطشُون, الآباء يسرقُون والأبناء يسدَدون الفاتورة, الآباء يلهثون وراء نزواتهم والأبناء يُرقعُون الفضائح, وصفتُ ما يفعله بعض الآباء بصورة مَجازية لكن الكثير منها واقعية وفي النّهاية يبدأ مُسلسل "الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون". فهل يعِي الكبارُ ما قد تنتج عنه أفعالهم بحق أبناء الحياة؟ , يقول جبران خليل جبران: " أولادكم ليسُوا لكم، أولادكُم أبناء الحياة, العنوان قد يبدو غير مألُوف عند البعض لكن الغرابة الحقيقية تكمنُ بمضمُون هذه الكلمات التي قد تكون بنظر البعض عادية لكِن ما إن تتمعن بمعانيها تجدُها حُكما قد صدرَ بمعاقبة الأبناء بذنب لم يقترفُوه بل سوَّلت بنفس ذويهم في أن يرتكبُوا حَماقات يَدفع ثَمنها الأبناءُ فيما بعد.. طرحي لهذه المسألة يأتي لنكأ هَذا الجُرح القديم الجَديد وهو ترسُّبات أخطاء البَعض, الكثير من الكِبار وما ينتجُ عنه من معاناة لجِيل الأبناء وقد تجعلُ منهم نُسخا غيرُ مُحسنة لصِفَات عَفَا عنها الزَّمن لجِيلهم والأجيَال اللَّاحقة بسَبب أخطاء بعضا من ربُّوهُم على الرَّذيلة لا الفضِيلة , فإمَّا أن يتجَرع الأبناءُ هذه الصِّفات وإمَّا أن يرفضُوها ويسعُون إلى تغييرها , أو أن يستسلمُوا إلى الواقِع المَرير وينزلقُوا في الوَحل. فَمن كان أبًا أصبح جدًا ومن كان ابنا أصبح أبًا, وتدُور الدَّائرة ويصبحُ الآباء هم الأجداد, والأحفادُ هم الآباء وهكذا... (دورة الحياة). القصصُ كثيرة ومُؤلمة لحدِّ بعيد والتِّي تدُور بمُعظمها بفُلك العُنوان ومَدى الظُّلم الذّي يقعُ على الأبناء من جرَّاء أخطاء وهفَوات يفعلُها إمَّا الجيلُ الأوَّل أو الثَّاني أو كلاهُما. الحياة الاجتماعية هي أم العِبر لكن وللأسَف لا يَرى بعضُ الكبار ما يفعلُونَه بالصِّغار , يخطئون ولا يعترفُون, يهدمُون ولا يرمِّمُون, يعرفُون أنَّه خطأ ولا يندمُون, في سِياق الحياة الزَّوجية, قد تبدأ الحَياة الزَّوجية بمشَاكل عَادية مثل كلّ أسرة, لكن الغير عَادي أن تتطوَّر المشَاكل وتتعقَّد بطَريقة تجعَل الأبنَاء هُم الشُّهود على جهل ذَويهم, فالأب يضربُ زوجتَه أمام الأبنَاء ثمَّ تتطورُ المَشاكل لتصلَ إلى طريق مسدُود يجعلُ الزَّوجة تقرِّرُ الطَّلاق وتجبرها قلَّة الحيلة على تَرك أبنَائها لعدَم القُدرة على إعالتِهم ثمَّ يحتَارُ الأبناءُ بين مِطرقة الأب وسندَان الأمّ ويضيعُ الأبناء فيمَا بعد بينَ زوجَة الأب وحِرمان عَطف الأمّ. هكذا انتهت قصص كَثيرة بهذا الشَّأن بجرائم قتل وتَعذيب, فكَم من طِفلة مَاتت بسَبب تَعذيب زَوجة الأب لهَا وكم من شاب انحرف إما بارتكابه جرائم قَتل أو سَرقة بسَبب فُقدانه الاتصال والنّصح والإرشَاد من ذَويه. وكم من بنت شابَّة دَار عليها الزَّمن وأصبحَت نُسخَة مِن حياة أمّها بسَبب فُقدانها الرِّعاية والحَنان والعَطف والسَّند والذّي هو الأهَّم ليمنع أيّ تَطاول عليها من قِبل الزَّوج أو أن يعَيّرها بتشتت عائلتِها وتفكّكِهم. أنانيةُ الزَّوج أو الزَّوجة أو كلاَهُما يدفعُ بالأبناء إلى سُلوك طريق مُلغم بالمَخاطر وهُنا يجبُ أن نتوَّقف ونسأل لماذا تزدادُ الجرائم في كلّ العام؟ وإذا بحثتَ عن الأسباب تجدُ70% من الجَرائم سببهَا التفكّك الأسَري وغياب دُور الأهل في حيَاة هؤلاء "المُجرمين الأبرياء" أنانية ذَويهم جَعل منهم أناسا خارجين عن القانُون! وأحبُّ أن أنوِّه هنا أنَّه ليسَ كلُّ زوجان مُنفصلان يرمُون أبناءَهم في سلَّة الحياة, بل أنَّه في حَالات كثيرة يتفاهَم الزوجَان المُنفصلان على رعَاية أبنائِهم واحتوائِهم خوفًا من ضياعِهم, لكنّ هذه الحَالات استثنائية وقليلة للأسف. حصرما آخر، عندما كَان الأب تاجراً للمُخدرات واستمرَّ عقودًا من الزَّمان بإفسادِ أجيالاً من الشَّباب وضَياع مُستقبلهم, وما كَان منه إلا أن اكتشفَ بأن الابن أصبحَ مُدمِن مُخدرات ومَات وماتَت معَه أحلامَه بهبَّة ريح شقِية ولًدَت ألمًا وحسرةً بفقْدان الضَّنى بسَبب جرم اقترفه الأب ودفع ثمنَه الابن. فما ذنبُ من يُولدون ويُسحقُون برحَى أفعال الكِبار؟ من يتخِذُ قرارَ إنجاب الأولَاد يَجب أن يتخذَّ قَرار إسعَادِهم بمَا استطاع وليسَ قرار إنشَاء مَحكمة لخطايَاهُم لتُصدِر الحُكم غيابِيا بأن يذوقُوا ويلاَت أفعالهم. يستفزُنِي مشهدُ الذِّئب بلبَاس الواعِظ, رجلٌ يحبُّ أن يرَى النَّاس فيه ورعَه وصدقَه وكلماتِه الطيبة, لكنّ يُخفي في ثنايَاه مكرا ودهاء وكذبا.. كيف؟ يُبطن أنَّه منافق, يُخفِي أنَّه نَصاب, يدَعي الدِّين ولا يطبِّقه إلا بالذِّي يتماشَى مع أهواءَه ونزواتِه. نَصبه واحتيالِه أضرَّ بأناسٍ كُثر ويلحِق أَضرارا جَسِيمة بهم فمَا كان مِن أبناء هَؤلاء "الذِّئاب" إلَّا أن دفعُوا الثَّمن, فمِنهم مَن وُلد مُعاقا, ومنهُم من مَات بمَرض عُضال, ومِنهُم من ورثُوا الخطِيئة وما زالُوا يتصدَّرُون الصُّحف بإنجازاتِهم العقيمَة التِّي لم تُولد إلا ظُلما وقَع ويقَع على كاهِل الضُّعفَاء. أملك أسمَاء هؤلاء الشَّخصيات, لكِن سَأعمِّم موضُوعِي هذا بمَعزل عن تَناولِ أسمائِهم لأنَّ ما أتحدثُ عنهُ يكادُ يكونُ شائِعا بصُورة كبيرة لكنَّ عَدم الإضَاءة عليه جَعل الكَثِير يَتجاهَل أو ينْسَى تَحت أيِّ عُنوان نَصِنف هؤلاَء "الكِبار" ومَاذا نُسَّمي ما يفعلُونَه ويدفعُ ثَمنه الصِّغار. أذكرُ مرَّة أن صَادفَت سيِّدة كَبيرة وأخَذَت تَحكي لِي ماذَا حلَّ بأبنائِها, فمِنهُم من رحَل إلى بِلاد الإغتراب من غير رجْعَة, وبنت معذَّبة ومقهُورة عندَ بيتِ أهلِ زوجِها, وأخرَى لا تنجِب, فسألتُها وكيفَ كانَت حياتِك في الماضٍي؟ فأجَابت عِشت مقهُورة ومخذُولة من البَشر والحَياة, فأمي(رحمها الله) ربَّتنا على الأسية, فلم تكن تملكُ الكثِير من المشاعِر تجاهَنا حيث إستنزفها والدِي رحمه الله من كَثرة المسؤُوليات التِّي كانت مُلقاة على عاتِقها من جِهة تَربية أبناءها ومِن جهَة أُخرى واجباتِها تُجاه أهلِ الزَّوج والبيت, لم تكن تملك الوقت لنَا, كبرنا بدُون أن نعِي مَعنى "العائلة" والتفَاف أفرادِها مع بعضِهم وتكافلِهم, (فاقد الشَّيء لا يعطِيه) قلُوبنا أفرغَت من أدنَى العواطِف التّي جَافتنا في فترة الصِّبا والشَّباب, فكبِرنا ولم نَجِد ما نُعطِيه لأبنائِنا. فلَم أكُن أعَامل أمِّي بما يجِب من البِّر والرَّحمة, ولا أبِي من العَطف والشَّفقة, ولا أبنَائي من الحبّ والحَنَان والألفَة. كبرتُ كصَحراء قَاحِلة لم تورِّث أبنَاءها سِوى قَسوة الصَّبار وضَنك الرِّمال. هل أجلِد ذاَتِي أم ألُوم أمِّي أم كلاهُما معًا؟ جرَّدتني أمِّي من المشَاعر التِّي لم تكُن تمتلِكُها بالأصل بخَطأ ليسَت المسؤولة عنهُ بالأسَاس , لكنَّها إستسلمت له عندَما سَمحت لنفسها أن تكُون آلة ونسِيت أنَّها إنسان, حرَّمت نفسهَا من المشَاعر وحرَمتني إيَّاها. خسرتنِي وخسرتُ أبنائي. عجلة الحيَاة مثلما دَارت عليها وهاهي الآن تدُور على, أبنائِي موجودُون بحياة لستُ موجودَة فيها. وقصَص أُخرى لا تَقلُ ألمًا على ما ذكَرت، عندَما تمتَهنُ الأمُّ أعمَال السِّحر والشَّعوذة لإفسَاد حَياة من تُريد وهُنا تُعطي درسًا مُبطنا لأبنائِها من تريدُون النَّيل منه فقَط دمَّره بالسِّحر الذّي أصبحَ آفة المُجتمعات العَربية، بَدل من أن تُعلِّمهم أن يتصَالحُوا مع ذاتِهم ويحبُوا لغيرِهم ما يحبُوه لأنفسِهم. أن نورث الكره والضغينة هنا تكمن المصيبة التي ستتكرر وتتفاقم المشاكل ظنا من الأبناء أن هذا السلوك طبيعي! قد يقسو علينا الزمان لكن قسوة الآباء لأبنائهم قد تكون أقسى وأمر من شوك الصبَار. تعددت أوجه الظلم وخطايا الكبار, لكن العامل المشترك فيما بينهم عندما ينسى الكبير ما إقترفت وتقترف يداه ثم يقول:" ليتني لم اولد قبل هذا وأشهد ما فعلته بأبنائي". أو قد لا يعرف أنه أخطأ وبالتالي لن يندم أو يعترف بخطئه ويستمر مسلسل "الآباء يأكلون الحصرم والأبناء يضرسون" إلى ما لا نِهاية, قبل إقدام مَا ميَّزه الله عن باقِي المخلُوقَات بالعقل على فعل أيّ مُنكَر أن يجلِس مع نَفسِه ويكُون على يقِين أنَّ لكلِ فِعل رَدة فِعل, فلَا تَجعل من ردَّة الفِعل خَسَارتِك لأعَز ما تملِك وتعِيش باقِي عُمرك في دَوّامة عَذاب الضَّمير. فسَاد المُجتمع أو صَلاحه من مَسؤولية أصحَاب القَرار ويبقَى الصِّغار تَحت جَناَح الكِبار, فإمَّا أن تعلِّمونَهم التَّحليق والطَّيران, أو أن تقتلُونَهم وهُم في المَهد.