كابتن أسامة شقمان
في اللحظات التي تُشكّل الوعي الإنساني، يبدو العالم كمرآة مكسورة؛ تعكس ما تريد، وتُخفي ما تريد. تُرفع شعارات العدالة وحقوق الإنسان عالياً، لكن حين تحين ساعة التطبيق، تتحول هذه الشعارات إلى أدوات انتقائية تُستخدم بوقاحة حين تخدم المصالح، وتُدفن حين تكشف التناقض.
في هذا الزمن المليء بالضجيج والكيل بمكيالين، تقف حربان: أوكرانيا وغزة. حربان دمّرتا البشر والحجر، لكن العالم لم ينظر إليهما بالعين نفسها، ولم يزن مأساتهما بالمعيار ذاته. هنا تتجلى الحقيقة المرة: العدالة أصبحت مُلكاً لمن يملك القوة، لا لمن يستحق الحق.
ازدواجية المعايير… أوروبا تحاسب، وغزة تُعاقَب مرتين
في أوكرانيا، تتحرك أوروبا والعالم الغربي بلا تردد، يجمدون الأصول الروسية، ويصادرون الأموال أينما وُجدت، ويعلنون بلا مواربة: "من يدمّر... يدفع."
وهذا موقف واضح وصريح: المعتدي مسؤول عن الخراب.
لكن ما إن تنتقل الكاميرا إلى غزة، حتى تُقلَب القاعدة رأساً على عقب.
غزة التي مُحيت أحياؤها عن الخارطة، تُطالب اليوم بأن يُموّل العالم العربي والإسلامي إعادة إعمارها، بينما يبقى من تسبب بالدمار خارج دائرة المساءلة.
بل يُعامل كطرف يجب توفير الضمانات له قبل الحديث عن البناء!
وهكذا تتشكل معادلة جديدة ومخزية:
"من يتضرر… يدفع أيضاً."
مشهدان فاضحان… وسؤال واحد يحرق الضمير
أوروبا تفتش عن أموال روسيا في كل ركن من الكوكب لتعويض أوكرانيا.
لكنها لا تبذل الجهد نفسه — ولا حتى عُشره — لتحميل إسرائيل مسؤولية ما فعلته في غزة.
فلماذا؟
لماذا يُحاسَب المعتدي في أوكرانيا بلا تردد، بينما يُستثنى المعتدي في غزة بلا خجل؟
لماذا تصبح القوانين الدولية فولاذية حين تُطبّق على روسيا، لكنها تتحول إلى مطاط حين يتعلق الأمر بإسرائيل؟
وكيف يُطلب من ضحايا غزة أن يعيدوا بناء بيوتهم بأموالهم أو بأموال المتعاطفين معهم، بينما من دمّرها يمضي بلا حساب؟
هذه الأسئلة ليست صراخاً غاضباً… إنها أبسط امتحان للعدالة الدولية، امتحانٌ فشلت فيه القوى الكبرى بلا استثناء.
الإعمار بلا مساءلة… شرعنة للخراب القادم
عبر التاريخ، كان الإعمار جزءاً من العدالة، لا بديلاً عنها.
ولا معنى لبناء مدينة إذا بقيت يد المجرم طليقة.
أما حين يُفصل الإعمار عن المسؤولية، فذلك يعني ببساطة إعطاء رخصة دائمة لإعادة إنتاج المأساة.
ولذلك، يصبح واجباً — لا خياراً — أن يصدر موقف عربي وإسلامي واضح يعلن:
أن إعادة إعمار غزة حقّ لأهلها، لا منّة من أحد.
وأن الجهة التي دمرت هي الجهة التي يجب أن تدفع كلفة ما فعلت.
وأن الصمت عن ذلك ليس حياداً… بل مشاركة في الجريمة.
لا تعمير بلا ضمير… ولا سلام بلا عدالة
يمكن للمدن أن تُبنى من جديد، ويمكن للجدران أن تُعاد إلى مكانها،
لكن ما لم يُرمَّم الميزان الأخلاقي الذي اختلّ على مستوى العالم،
سيظل البشر يدورون في دائرة واحدة: يُهدم المكان… يُعاد بناؤه…
بينما يبقى الظلم ثابتاً ينتظر فصلاً آخر.
إن العالم اليوم لا يحتاج إلى الإسمنت والحديد بقدر ما يحتاج إلى شجاعة تسمية الأشياء بأسمائها:
ما يحدث ليس خلافاً على الإعمار… بل فضيحة أخلاقية تصرخ بأن العدالة تُطبق حيث تريد القوى الكبرى، وتتلاشى حيث لا تريد.
وهذا هو الجرح الحقيقي الذي لن يلتئم حتى تعود العدالة عدالة… لا امتيازاً جغرافياً ولا لوناً سياسياً.




