تفاعلت الليلة الرقمية السادسة والثمانين في المغرب والمنظمة في إطار ليالي الوصال "ذكر وفك" من طرف مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية ومؤسسة الملتقى بتعاون مع مؤسسة الجمال، السبت، مع تخليد المغرب للذكرى 78 لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال من خلال تقديم فقرات ذات الصلة بالحدث المغربي وفقرات تعنى بالتوعوية الصحية والقانونية والتنمية الذاتية بواسطة خبراء مختصين في هذه المجالات، والتي تخللتها وصلات من بديع السماع والإنشاد.
كما تم تقديم تعزية باسم مشيخة الطريقة القادرية البودشيشية المغربية بوفاة الكاتب العام الأسبق لوزارة الشؤون الخارجية المغربية والسفير السابق محمد السجلماسي، وتقديم تعزية مشيخة الطريقة في وفاة المعطي جوريو، الذي سبق له أن شغل منصب وزير وسفير للمغرب لدى عدد من العواصم، ولم تخلف الليلية الرقمية 86 الموعد مع الكلمات العلمية لعلماء وباحتين ، وكالعادة كانت الكلمة العلمية للدكتور منير القادري حول موضوع " قيم الازمات وأزمة القيم والبناء الحضاري للأمم".
أشار القادري في مستهل كلمته الى الاضطراب الذي يميز واقع الانسانية اليوم بفعل توالي الازمات الاقتصادية، الصحية التي خلفتها الجائحة، وما رافقها من أمل في غد افضل وخوف مما يخبأه المستقبل ، لافتا الى ضعف الحضارة الغربية امام هذه الجائحة الكبرى.
وأضاف انها كشفت حقيقة البوصلة الأخلاقية للشعوب، وزيف ادعائها التحضر الانساني والتمدن ومراعاه حقوق الانسان سواء على مستوى الدول والافراد، فصارت السلوكيات كالانفلات القيمي وقوانين الصراع ومبدا البقاء للأقوى، هي القاعدة الغالبة.
وأكد رئيس مؤسسة الملتقى أن سعادة الفرد والمجتمع وطمأنينة النفس وراحة الضمير والرقي الحضاري لكل نواحي الحياه في المجتمعات لا يمكن ان تنبع الا من خلال قيم واخلاق حميدة تمارس سلوكا في الحياة في السراء والضراء وعند اشتداد الفتن وكثرة المشاكل واحتدام الصراعات، موردا مقولة للمفكر والكاتب الفرنسي روني كينو عبد الواحد يحيى كينو في كتاب "أزمة العالم المتحضر" الصادر سنة 1927 ، جاء فيها "لقد سلم الانسان زمام امره للعقل وحده الذي استأثر بالتدبير والاستشارة والانجاز فظهرت أزمة العقل واضحة جلية أغرقت الانسان في التشكيك وعدم اليقين وجعلته يتخبط في مستنقع التلوث الفكري والعقدي، فتم باسم العقل اقصاء الروح وتهميشها وطغت العقلانية بمحدودية آفاقها وقصور مداركها ما أوقع الانسانية في مآزق ومواقف تكاد تعصف باسمي المعالم والمعاني والعطاءات الحضارية وفي ظل هذا الجموح العقلي هيمنت الحياة المادية على ما هو معنوي وروحي فانعدم الامن الروحي وحدث الخلل الحضاري وانفرط عقد الوئام بين مقومات الوجود الانساني واختل التوازن بين مطالب الجسد والروح مما زج بالإنسانية في حياة ملؤها ثقافة الاستهلاك والاغتراب واللاهوية وفقدت بذلك متطلبات الامن الحضاري".
وبين القادري ان المجتمعات الغربية المتقدمة التي نطمح للاقتراب من مستوى تقدمها ورقيها العلمي وتقدمها التكنولوجيا وتطور مؤسساتها السياسية والاقتصادية تعيش في الحقيقة ازمات اجتماعيه خطيرة، بسبب ما تعانيه من خواء وفراغ روحي، مبرزا الحاجة الانسان المعاصر الى تذكر دور القيم والاخلاق ومدى تأثيرها الكامل على سير الجانبين المادي والروحي في حياته.
وذكًر بان الاسلام يحرص على استحضار القيم والاخلاق في كل عمل في العبادات والمعاملات وفي البيع والشراء وفي الوظائف والاعمال وتولي المناصب وفي التعامل الاسري وتربية الاولاد وفي معاملة الاخر، موضحا أن انعدام هذه القيم الأخلاقية والروحية نتج عنه "الانحلال الخلقي وعدم الصدق والتساهل والتقصير والتهرب من المسؤولية والغش والتحايل والظلم والفساد والبغي غالبا على معاملات الناس وسلوكياتهم، وفسدت الحياة وساءت العلاقات بين البشر وتوقفت عجلة النمو والازدهار ودمرت دول ومجتمعات"، معززا كلامه بما ذهب اليه الدكتور طه عبد الرحمن بكون التعددية القيمة اتجاها ذا تأثير في الفلسفات الأخلاقية والسياسة المعاصرة للأمم حيث يؤكد على مكانة القيم في الحياة الإنسانية إذ بها تصلح الحياة وتطيب وبدونها تخبث.
وتابع مدير المركز الأورو متوسطي لدراسة الاسلام اليوم "أن الفراغ الروحي مرض خطير اشد خطرا من الامراض العضوية لان له تأثير كبير على حياتنا الدنيوية والاخروية"، مبينا أن عدم اكتراثنا بأهمية السياسة التربوية والأخلاقية الاسلامية السليمة المنفتحة في داخل بيوتنا وفي المدارس والكليات والجامعات في تهيئة التربة الملائمة، ساهم في نمو بذور الفراغ النفسي والعقائدي في مجتمعاتنا، وأوضح أن الاخلاق في المعاملات اصبحت عملة نادرة ، بسبب الغفلة عن الآخرة وحب الدنيا والبعد عن الدين وتعاليمه وعدم ادراك خطورة ضياع حقوق العباد.
وبين ان التربية الأخلاقية على القيم ومكارم الاخلاق هي تربية عرفانية، تهدف الى حمل البشرية نحو منظومه للقيم الحضارية البانية لمستقبل الأمم على أساس الاستخلاف، غايتها تحقق النفوس بوازع من الدين مستدلا بحديث أم سلمة رضي الله عنها حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم "اذا احب الله عبدا جعل له واعظا من نفسه وزاجرا من قلبه يأمره وينهاه"، موضحا أن هذا الوازع يردع صاحبه ويزجره كلما هم بالتفريط فيما أوكل إليه من امانة بل ويدفعه دفعا الى بذل الغالي والنفيس من اجل تحقيق المصلحة الوطنية العامة.
وابرز دور قيم الاخلاص والصدق والإتقان والتمكين في الخروج بالامم الاخرى من التخلف والتأخر الذي كانت تعيشه، وضيفا أنها قيم عالمية ومثالية تتسم بالثبات والمرونة والواقعية وتتماشى مع الفطر الإنسانية السوية، كما أكد على دور التصوف -مقام الاحسان- في تأهيل الانسان بالتشبع بهذه القيم وممارستها خدمة للبلاد والعباد حتى تسير وتصبح سلوكا وممارسة، موردا مقولة الفقيه العلامة ابن عطاء الله السكندري "الاعمال صور قائمة وارواحها وجود سر الاخلاص فيها".
وأردف القادري "ان القيم الأخلاقية هي الرصيد الاحتياطي الضخم الذي تعتمد عليه الأمم في ترميم العديد من انواع الخلل في حياتها، ومن هنا ندرك حجم الجريمة التي ارتكبت في حق هذه الامة حينما دفعت دفعا على مستوى التنظير وعلى مستوى العمل الى ان تجعل القيم الاخلاقية والنفسية في المرتبة الدنيا من اهتماماتها، فلما واجه الناس ما واجهوه من ضائقات العيش ومن شح في المتطلبات لم يجدوا لديهم سلوكا خلقيا كريما يعتمدون عليه في الصمود امام المغريات وامام اسباب الانحدار المختلفة، فالاستهلاك بدون بعد أخلاقي وروحي يدمر الهوية والقيم الإنسانية".
وشدد على ان المطلوب هو التمييز والفرز بين نقاط القوة والضعف في الحضارة المادية الغربية، من اجل ادراك خطورة الجانب القيمي الاخلاقي، وعدم تجاهله اهماله في تقويم اوضاع مجتمعاتنا، موضحا أن الغاية هي بلوغ التوازن والتكامل في تنمية احتياجات الانسان في توجهاتها المادية والعقلية والفكرية والروحية.
ونوه بالمبادرات الانسانية الاخلاقية ابان الازمات والاوقات الصعبة على كل العالم لبعض الدول الاسلامية ومن بينها المملكة المغربية التي تتميز بجوهرها الحضاري والروحي والاخلاقي وعمقها الثقافي والاجتماعي، مؤكدا ان المغرب حافظ على قيمة الانسان وكرامته.
واشار الى تجل مقتضيات التربية المحمدية العرفانية الاحسانية في السلوك الحضاري للمغاربة ملكا وشعبا، موضحا ان التاريخ شهد على رقي وحضارة الامه المغربية.
وأوضح ان التراث الاسلامي الصوفي الروحي المغربي غني بالكنوز التي تأسر الناظرين وتحيي القلوب التي ماتت، مشيرا الى ما فيه من الحكمة والقواعد المنقذة من الضلال والتي ترمي الى إحياء الرسالة المحمدية الخاتمة، وبين أن التصوف مقام الاحسان يصبر اغوار النفس وبواطن الامور، موضحا أن معنى أن تكون صوفيا يقتضي "ان تصير انسانا يسعى في حياته بين الذكر والفكر، امتلأ قلبه حبا وفاض رحمة وجمالا ، انسان يرى الجمال في اذا ادق تفاصيل حياته، ان تكون صوفيا مسلما محسنا معناه ان تعمر الارض بفكر وتناجي مولاك"، مستدلا بالحديث القدسي "قول النبي صلى الله عليه وسلم "ما وسعني لا سمائي ولا ارضي لكن وسعني قلب عبدي المؤمن".
وختم مداخلته بالتأكيد على الحاجة الى "ايجاد مدخل جديد للتنمية الأخلاقية يقوم على منح ثوابتنا القيمية الاخلاقية معاني جديدة واهتمامات خاصة لبعض مدلولاتها ومواكبة عصرها ومسايرة ركب التنمية الثقافية الروحية الأخلاقية الإبداعية والإعلامية، واعطاء المزيد من الاعتناء والاهتمام بالمضامين التي تجمع وتوحد وتقرب بين الشعوب وهو ما يسمى بالدبلوماسية الروحية الدينية ، متسمة بالتوازن بين ما هو مادي وما هو روحي وترسيخ التربية على القيم في نفوس، ... قيم التفاعل الايجابي المثمر مع عصرنا ومحيطنا حتى نكون ايجابيين وفاعلين ومبدعين باسهامنا المتميز في هذه الحضارة المعاصرة لنكون بذلك مشاركين في تخليقها وأنسنتها لتصبح مشتركا انسانيا وكونيا بمشاركه جميع مكونات هذا العصر تحت رايه السلم والسلام والاحترام والامن والامان والتعايش المشترك والسلام مجندين وراء قائد الامة جلالة الملك محمد السادس الذي هو دائما في خدمة القضايا الوطنية والانسانية".