الدكتور فراس حماد الجحاوشة
في إحدى خطبه اللافتة، يزعم بنيامين نتنياهو أن اليهود يستمدون اسمهم من يهودا، موطن ديانتهم الأصلي، ومن ثم فإن عودتهم لا تُعد استعمارًا بل هي عودة إلى جذورهم. يرى نتنياهو أن الفلسطينيين يرفضون قبول هذه "الحقيقة". الواقع الذي يتجاهله نتنياهو هو أن يهودا هي مصدر الديانة اليهودية وليست بالضرورة مصدر لكل من اعتنق هذه الديانة وذريتهم عبر التاريخ. فاليهود الأصليون من يهودا لم يهاجروا إلى رومانيا أو أوكرانيا ليعودوا بعد آلاف السنين بصفة رومانيين أو أوكرانيين، ولم يهاجروا إلى إثيوبيا ليعودوا كأثيوبيين، أو إلى نيويورك ليعودوا كأمريكيين.
الانتماء إلى ديانة معينة لا يمنح أتباعها الحق في استيلاء الأراضي والممتلكات والموارد في بلدان بعيدة تحت ذريعة الانتساب التاريخي لهذه الديانة، سواء بوجود دليل أو بدونه. حتى إذا كانت أملاك معينة في بلادنا أو في غيرها مُسجلة باسم يهودي، فهذا لا يمنح كل يهودي الحق في توريث هذه الأملاك تلقائيًا إلا إذا كان من الورثة الشرعيين بموجب القانون.
تُعد النقاشات حول مفهوم النكبة المستمرة، التي تعصف بالسكان الأصليين في فلسطين، نادرة ومحدودة في الأروقة السياسية. تتجلى هذه المأساة في تجارب أهلنا الصامدين داخل "الخط الأخضر"، خصوصًا في المثلث والجليل والنقب والقدس، حيث تركزت مسؤولية مواجهة مشاريع التهويد والأسرلة على عاتقهم بشكل شبه كامل. هذا العبء الثقيل جاء نتيجة للتخلي عن دعم قضيتهم في المراحل التالية لاتفاقيات أوسلو، ما جعلهم يواجهون مرحلة خطيرة دون إسناد فعلي أو حقيقي. خلال العقدين الماضيين، أسفرت المفاوضات عن توافق فلسطيني وعربي على فكرة "تبادل طفيف" للأراضي، وهو ما يعزز فعليًا الأجندات الإسرائيلية الرامية إلى تكريس يهودية الدولة.
الوضع في الأراضي الفلسطينية لعام 1948 يظهر مأساة مركبة تتجلى في "يهودية الدولة" و"التبادل الطفيف للأراضي". في هذا السياق، تُمارس السلطات الإسرائيلية ملاحقة مستمرة للوجود الفلسطيني من خلال مصادرة الأراضي وتمرير القوانين العنصرية التي تهدف إلى إسكات الصوت الوطني. حزب التجمع الوطني الديمقراطي، وهو من الأحزاب العربية البارزة، يُعتبر مثالاً على الكيانات التي شعرت بخطورة تشريعات كهذه على الوجود العربي في إسرائيل، مما دفع المؤسسة الصهيونية لاستهدافه بقوانين قمعية. كان قانون "برافر"، الذي يقضي بترحيل سكان النقب ومصادرة أراضيهم، مثالًا صارخًا على هذا النهج.
ملف القدس يكشف عن وجوه متعددة من العار، حيث تستمر سلطات الاحتلال في تطويع المجتمع الفلسطيني من خلال سياسات التجنيد الإجباري والخدمة المدنية، وهي جزء من "متلازمة" تطويق الوجود العربي في الداخل. في المقابل، يظل الفلسطينيون متمسكين برفضهم لكل أشكال العدوان على هويتهم وأرضهم وتاريخهم، مؤكدين على إصرارهم على الحفاظ على حقوقهم وكرامتهم في وجه السياسات الإسرائيلية القمعية.
لو كان الانتماء إلى ديانة يعطي الحق في امتلاك الأراضي حيث نشأت الديانة، لأدى ذلك إلى مطالبة المسيحيين بالأراضي في الناصرة وبيت لحم والقدس، كما هو الحال في مواطن نشأة المسيحية. أو تخيل لو أن جيوشاً من المسلمين من الهند وباكستان وإيران والصين يقتحمون مكة، مدعين أنهم يعودون إلى موطن الإسلام الأصلي. أو لو غير الصهاينة ديانتهم إلى البوذية، هل يعطيهم ذلك الشرعية لـ"العودة" إلى الهند أو الصين؟
بهذه المفاهيم المتضاربة، يتبين أن منطق نتنياهو يفتقر إلى الثبات والاستمرارية عند التطبيق في سياقات أخرى. يُظهر هذا التناقض العميق في المعايير المتبعة، وكأن الحقوق التاريخية يمكن أن تُستخدم كأداة لتبرير الاحتلال، متى ما خدم ذلك مصالح جماعة معينة، بينما تُنكر نفس هذه الحقوق لآخرين في ظروف مشابهة.
من الواضح أن تطبيق مثل هذه المعايير بشكل انتقائي يفتح الباب أمام الجدل الدولي حول الشرعية والحقوق التاريخية، ويضع القانون الدولي في موقف حرج، حيث يجب أن يكون القانون واضحاً ومتسقاً ويطبق بالتساوي على جميع الدول والشعوب.
لذا، يُعد من الضروري إعادة النظر في كيفية تناول ومناقشة الحقوق التاريخية والعودة إلى الأراضي، لضمان عدم استغلال هذه المفاهيم لتبرير أعمال تتنافى مع العدالة والقانون الدولي. ينبغي على المجتمع الدولي والمؤسسات القانونية تعزيز التفاهم والتعاون بين الشعوب بدلاً من إذكاء نار الصراعات عبر التأويلات المتحيزة للتاريخ.
فيما يتعلق بالحقوق التاريخية للمسلمين في المنطقة، يجب أن نعترف بأن الإسلام، كديانة انتشرت واسعًا وعميقًا في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، قد أسس لثقافة وحضارة راسخة تشكل جزءًا لا يتجزأ من نسيج هذه المناطق. الأراضي التي شهدت ظهور الإسلام وانتشاره، كالجزيرة العربية، وفلسطين، ومصر، والشام، وغيرها، تعتبر جزءًا من الذاكرة الجماعية والهوية الدينية للمسلمين.
هذا الارتباط التاريخي يوفر للمسلمين نوعًا من الشرعية الثقافية والدينية في الادعاء بحقوقهم في هذه المناطق. لكن، كما هو الحال مع أية ديانة أو مجموعة عرقية، يجب أن تُمارس هذه الحقوق وفقًا للقوانين والاتفاقيات الدولية التي تحكم العلاقات بين الدول والشعوب في عصرنا الحالي.
لا يمكن فصل هذا الحق التاريخي عن الالتزام بمبادئ العدل والإنصاف والسلام. يجب أن يُنظر إلى الحقوق التاريخية للمسلمين كجزء من حوار أوسع يشمل جميع السكان الأصليين والمجتمعات التي تعيش في المنطقة، وذلك بهدف تعزيز التعايش والتفاهم المتبادل.
في هذا الإطار، ينبغي على الدول والمجتمعات أن تتبنى نهجًا يركز على المستقبل ويهدف إلى بناء الجسور بين الأديان والثقافات المختلفة، بدلاً من استخدام التاريخ كأداة للفصل والانقسام. من خلال هذا النهج، يمكن تحقيق تقدم نحو تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة، وهو أمر يصب في مصلحة جميع الأطراف المعنية.