لطالما كان صانع الأفلام الأميركي ريتشارد لينكليتر أحد أفضل كاتبي ومخرجي السينما من ناحية غزارة الأفكار «تأليفاً وتنفيذاً» والأكثر أصالة منذ بداية التسعينات.
من «سلاكر» 1990 و«ديزد أند كونفيوزد» 1993 و«سكول أوف روك» 2003 إلى «بويهود» 2014 و«لاست فلاغ فلاينغ» 2017، ولا ننسى ثلاثية بيفور الرائعة 1995/ 2004/ 2013. إن لم يعجبك فيلم لهذا الرجل فسيعجبك جانب منه على الأقل إلا هنا في هذا الفيلم.
الأسترالية كيت بلانشيت من أقوى نجمات هوليوود في هذا الزمن، وحازت أوسكار أفضل ممثلة في فيلم وودي ألن «بلو جاسمين». لكن هنا لا يبدو أن الأمور تسير على ما يرام.
فيلم Where’d You Go Bernadette «أين ذهبتِ بيرناديت» مملوء بشخصيات مضطربة لا تطاق، وسيعرف بسهولة كأسوأ أفلام لينكليتر ومن الأكثر تخييباً للآمال هذا العام.
المهندسة النرجسية
محاولات الكوميديا غير موفقة، ومشاهد استدرار العاطفة مختلقة ومقحمة. لو سكنت بجانب جار مزعج أو صادفت مسافراً ثرثاراً على رحلة جوية طويلة، فهذا أدق وصف لهذا العمل.
الفيلم مقتبس من رواية نشرت عام 2012 بالعنوان نفسه للمؤلفة ماريا سيمبل، تؤدي بلانشيت دور البطولة: بيرناديت فوكس مهندسة معمارية وأم لابنة مراهقة. تكره بيرناديت الخروج من المنزل، وتتشاجر مع الأمهات الأخريات في مدرسة ابنتها، وتحتقر الناس بشكل عام لأن الجميع في عينيها أغبياء وسيئون وخاوون. لا غرابة من شخصية نرجسية مضطربة!
نعلم من خلال مقطع من فيلم تسجيلي يعرض على «يوتيوب» (يحوي مقابلات مع زملاء سابقين لبيرناديت يؤدي أدوارهم ممثلون معروفون مثل ستيف زان وميغان مولالي ولورينس فيشبورن وآخرين)، نعلم أن بيرناديت كانت من أفضل المهندسين المعماريين على مستوى العالم، وحازت جوائز، لكن عندما قرر منتج تلفزيوني بريطاني ثري شراء أول بيت صممته بيرناديت لأجل أن يهدمه ويستخدم الأرض لمواقف سيارات. أصيبت بيرناديت إثر ذلك بانهيار عصبي واعتزلت مهنتها 20 عاماً.
الحقيقة، أننا لم نفهم سبب حشر قصة خلفية بيرناديت في ذلك المقطع التسجيلي الطويل الذي يأتي بعد أكثر من نصف ساعة من بداية الفيلم التي بدت وكأنها من مخلفات فيلم سابق. والمقطع لا نراه سوى في سياق واحد: أداة نص كسولة لاختصار ماضي بيرناديت والذي بمجرد أن ينتهي يقفز إلى ذهنك السؤال التالي: إذا كان النص متكاسلاً في سرد بداية القصة، فهل تشكل بيرناديت أي أهمية لما تبقى من الفيلم؟
انتقلت بيرناديت إلى منزل متهالك والآن تجرجر أقدامها بين أرجائه متحدثة إلى مانجولا أو هكذا اسمها وهي مساعدتها الإلكترونية على الجهاز اللوحي. تتحدث بيرناديت بقسوة مع زوجها إلغين (بيلي كرودب) الذي باع شركة أنيمشن يملكها على مايكروسوفت، والذي يمضي أيامه ولياليه في العمل. ولا يلام على ذلك! بيرناديت فظة أيضاً مع جارتها أودري (كريستين ويغ).
اختفاء.. وخلل
الحالة الوحيدة التي تعكس فيها بيرناديت لطفاً وبعض الدفء هي مع ابنتها ذات 15 عاماً بيي (إيما نيلسون) التي تبادل والدتها الحب، والتي جاءت بعد أربع محاولات حمل فاشلة. رغم هذا الحب؛ فإن الوضع بشكل عام غير مريح نظراً لأن بيرناديت لا تعطي ابنتها متنفساً، وتظل ملتصقة بها.
يتضح في ما بعد أن بيرناديت مصابة بمرض عقلي، ويضطر زوجها لجلب طبيبة نفسية (جودي غرير). تختفي بيرناديت وتنتقل للعيش في القطب الجنوبي (لا تسأل لماذا) والغرض من الاختفاء توليد نوع من التعاطف مع شخصيتها، إلا أن هناك ما يطفئ هذا التعاطف بسبب خلل في شخصيتها غير المكتملة، ولأننا لا نهتم!
الرحلة تبدو كأنها من فيلم آخر، وذهاب عائلتها إليها غير مقنع بتاتاً، بكل بساطة لأن بمجرد إثبات أن هذه المرأة تعاني مرضاً عقلياً فأفضل حل عزل ابنتها وزوجها عنها وابتعادهما حتى تحصل على العلاج.
كتب لينكليتر النص بالتعاون مع هولي جنت وفينس بالمو، وربما حاول نقل جوهر الرواية إلى السينما، لكن يبقى هناك خلل رهيب إما في عملية الاقتباس أو في غرفة المونتاج. علماً بأن المدة الأصلية للفيلم تجاوزت الساعتين، وتم تأخير عرضه من مايو إلى أغسطس، وقلصت مدته إلى 105 دقائق.
يُروى الفيلم من وجهة نظر «بيي» لكن عند نقل قسم أو أقسام الرواية المكونة من رسائل بيرناديت إلى الشاشة يواجه لينكليتر تحديات ولا يستطيع التغلب عليها. هنا يقع الخلل في شخصية بيرناديت التي تصبح مزدوجة، وكأننا أمام نسختين منها: نسخة الماضي من وجهة نظر «بيي» ونسخة الحاضر من وجهة نظر بيرناديت نفسها. النسخة الثانية من بيرناديت تبدو أفضل من الأولى، وربما تستحق التعاطف أكثر.
أمّا الأزمة الحقيقية في حياتها والتي غابت فيها 20 عاماً فاكتفى الفيلم بشرحها دون التطرق إليها بشكل وافٍ أو موسع. رغم صعوبة الجزم لكن يبدو أن الجزء المقتطع من الفيلم كان من جزئية رحلة القطب الجنوبي.
هناك جزئية عن ضابط «إف بي آي» يدخل منزل بيرناديت ليخبرها أن المساعدة الإلكترونية مانجولا صممتها عصابة روسية لسرقة بياناتها الشخصية، والفيلم لا يعرف كيف يتعامل مع الجزئية، وتبدو هي الأخرى من فيلم آخر ربما عن جواسيس روس!
هذا الفيلم عثرة في مسيرة صانع أفلام موهوب وبارع مثل التكساسي ريتشارد لينكليتر، فإذا كانت هذه بداية النهاية، فالاعتزال في القمة هو الحل الأمثل. هذا الفيلم فوضى ومملوء بالثرثرة ولا يستحق المشاهدة.
لمشاهدة الموضوع بشكل كامل، يرجى الضغط على هذا الرابط.
ثرثرة
أداء بلانشيت ممل، فهي لا تفعل شيئاً سوى ثرثرة نرجسية غير مفيدة، لكن أداء نيلسون كان لافتاً للنظر في أول فيلم لها. وجهة نظر الفيلم غير واضحة بالنسبة للأب ما لو كان غيابه عن بيرناديت تصرفاً صحيحاً أو مداناً، لكن غالباً الفيلم لا يريد إدانته، أو أن هناك خللاً آخر في النص.
2012
العام الذي ظهرت فيه الرواية المقتبس عنها الفيلم، وهي من تأليف ماريا سيمبل.
إذا كانت هذه بداية النهاية لمسيرة صانع أفلام موهوب وبارع مثل التكساسي ريتشارد لينكليتر، فالاعتزال في القمة هو الحل الأمثل.--الامارات اليوم