بداية، وعندما تفتح التكنولوجيا أبواباً لكل ذي غاية أن يمارس هواية الكلام بكل تشعباته وغاياته فيصبح صوته، وحتى همسه صراخاً مسموعاً، ويكون اليسير من ذلك بنّاءً والكثير هدّاماً وحينما يريد البعض للهاتف المحمول ان يأخذ دور المدعي العام والقاضي، ولو استطاع لجعل منه سلطة تنفيذية للأحكام.
عندما يكون كل ذلك يفقد الصمت بريق الذهب، ويصبح حديداً صدءاً، ويصبح بعض الكلام الفضي بالمقابل "ضرورة ذهبية " ولا ادّعي أنني أكتب الذهب، ولكن ما يحكم مجمل توجهاتي بما فيها السياسية، قاعدة بسيطة: أي وطن نريد لابنائنا وأحفادنا بعد ان نرحل عن هذه الدنيا.
وبداية أيضاً، وحتى لا يمارس البعض فن القراءة بين السطور، أقول إنني اعترف بأنني معارض، وأغلب معارضتي، هي معارضة نسبةٍ كبيرة ممن يسمون أنفسهم بالمعارضين او الحراكيين، لذلك أقول: إن بعض أصوات المعارضة هي أصوات وطنية صادقة لا غاية لها سوى مصلحة الوطن، وإن كان بعضها - دون أن يدري - يختار توقيتاً خاطئاً، يستفيد منه بعض الآخرين من أصحاب الأجندات الشخصية أو المرتبطة بأعداء متآمرين ضد مصالح الاْردن الوطنية العليا.
أولاً: اعترف الآن بأنني في جدليتي مع بعض الأصدقاء والمهتمين كنت قبل تسع سنوات ضد فكرة إنشاء نقابة للمعلمين، قبل أن يتموضع قانونٍ جديدٍ للنقابات بشكل عام، ولا أدعي اني خبير في القانون أو التشريع، ولكن موقفي كان لسببين، الأول أن النقابات إضافة إلى بعض وسائل الاعلام "الصحافة " قامت منذ عام ١٩٦٧ ببعض أهم أدوار مجلس النواب الذي تعطل حتى عودة الحياة البرلمانية عام ١٩٨٩، خاصة الدور الرقابي، ومن الطبيعي ان يكون هناك قوانين تعيد للنقابات دورها الطبيعي في خدمة المهنة ومصالح منتسبيها، وترك الدور الرقابي والتشريعي لمجلس الأمة.
والسبب الثاني من وجهة نظري الشخصية آنذاك، هو أن جل المعلمين هم من موظفي الحكومة ومسؤولية الحكومة ذاتها رعاية أبناء هذه المهنة، والذين يمثلون في وزارة التربية والتعليم أغلبية الموظفين الحكوميين، وليست مسؤولية طرف ثالث" نقابة".
وعلى اَي الأحوال، تم إنشاء النقابة، وأصاب إضراب المعلمين مجتمعنا لفترة من الزمن بالشلل، ومع ذلك، أسجل كما يسجل الكثيرون، الاحترام والتقدير لمن يدير نقابة المعلمين لأنهم لم يسمحوا لأي تيار سياسي متسلق أو للمتصيدين أن يدخلوا الى أجندة مطالبهم المشروعة بزيادة رواتب المعلمين.
ومع ذلك، فلطالما اعتبرت أن النهضة المطلوبة داخل مجتمعنا عناصرها الأساسية ثلاثة: القرار السياسي الأعلى، ثم أدوات التغيير: المعلم والمثقف المنتمي والإعلامي الملتزم، ثم توافق وتماسك الشعب خلف القيادة تحت مظلة الدستور.
لذلك فالمعلم هو الأساس في بناء جيل تحقيق النهضة التي أشار اليها جلالة الملك في أوراقه النقاشية، وكذلك تكون رعاية المعلم وتحقيق أسباب الاستقرار المالي له والتدريب والتطوير المعرفي ليقوم بمهمته المقدسة نحو الأجيال الشابة بناة المستقبل، مسؤولية جليلة للحكومة.
ثانياً: وفِي نفس إطار التطور التكنولوجي وما يقدمه من منصات على وسائل التواصل الاجتماعي، فقد اصبح كلٌ منا هدفاً لبعض من يسمّون أنفسهم "معارضة في الخارج" أو "الحراك في الداخل"، وأكرر هنا أنني لا أتهم، وليس لدي القدرة لمعرفة فيما إذا كان لأحدٍ أو لآخر أجندة أو ارتباط بجهة تعمل ضد مصالح الاْردن، ولكني ببساطة أرى ميزان ومقياس الحكم على كل تلك التراكمات التي يتم ضخها أمام مرأى ومسمع الأردنيين هو التالي:
أ : هل تحترم هذه الطروحات القوانين والأنظمة والقواعد الأخلاقية المتوارثة والمتبعة داخل مجتمعنا الأردني، أم تنتهك دون وجه حق قانوني وأخلاقي الخصوصيات وتطرح - خارج رقابة الضمير - أنباء مزيفة او ينقصها الدقّة ؟
ب : هل يتم وزن أي من الطروحات بالميزان السياسي الحساس، خاصة عندما يتلاشى الخط الفاصل بين الشأن الداخلي والشأن الخارجي الذي يبدأ بدائرة الجغرافيا السياسية المحيطة بالأردن - بكل تعقيداتها ومخاطرها - وتستمر الدوائر حتى نصل الى كل العالم النشط حولنا، خاصة وأن العالم بات قرية صغيرة. وهل يمكن أن نثق بصاحب منصة إعلامية ورأي سياسي لا يأخذ بالحسبان أجندات اليمين في واشنطن وتل أبيب، وتأثيرات ذلك على شأننا الأردني الداخلي؟
ولا أظن أن أي أردني سواء تواجد على الدوار الرابع أو أحدى عواصم العالم يقبل أن يكون - دون أن يدري - أداةً لصيدٍ عَكِر لجهةٍ مغرضةٍ أهدافها الخفية تتعارض تماماً مع طروحاته العلنية التي ترتدي ثوب الإصلاح والتغيير الإيجابي .
وربما كان على الجميع أن يتذكر أن قول الحقيقة في المكان الخاطئ والتوقيت الخاطئ ربما ينتج عنه - دون قصد - اذىً للوطن.
ثالثاً: المقياس الأخلاقي للطرح النقدي السياسي، والحمد لله أن معظم الأردنيين يرون في الانزلاقات في المواضيع والألفاظ لبعض من يعتبرون أنفسهم حملة لواء التغيير، هي انزلاقات مرفوضة من وجهة نظرٍ أخلاقية قبل أن تكون مرفوضة من وجهة نظر قانونية، فلن تخلق تلك الترهات تغييراً فيما عهده الأردنيون من حلم وحنكة قيادتنا الهاشمية، والتاريخ يشهد لهذه القيادة أنها لا يمكن ان تُستفز وهي لا تقف عند الصغائر، ومسؤوليات قيادتنا في هذا الظرف الدقيق من تاريخ أمتنا ومنطقتنا أجل وأسمى من أن تلتفت الى صغار المنغصات.
ويبقى همها هو الحفاظ على سلامة وطننا الأردني أمام العواصف الواضحة والمبطنة، وهذا يقتضي من المخلصين الكثر من أبناء مجتمعنا الواحد الموحد الالتفاف حول قيادتنا لنتجاوز الصعاب، وحتى تنجلي هذه العاصفة غير المسبوقة عن منطقتنا.
رابعاً: أما عقدنا الإجتماعي، الدستور، فلم يسلم من طروحاتٍ معارضة تفتقر وللأسف للذكاء والحس السياسي المرهف.
ان دستورنا هو سفينتنا ومظلتنا، وعقدنا الاجتماعي لا يسمح لأحد ان يحفر في عقر سفينتنا كي لا نغرق جميعاً، وتحمينا مظلته من تلك الشهب المتطايرة التي تستهدف كينونتنا السياسية.
نعم، عقدنا الاجتماعي كنّا من خلاله البذرة السياسية للنهضة العربية الكبرى، وإننا كورثة للحس القومي يجب أن نتمسك بتلك البذرة التي أورثنا إياها الأجداد والآباء، ويجب أن لا نسمح بالعبث بدستورنا في التوقيت الخاطئ، فجمود دستورنا ليس مطلقاً ، ولكن الذكاء السياسي يفترض أن نأخذ بالحسبان كل المعطيات والظروف، فلا نعبث بعقدنا الاجتماعي في التوقيت الخاطئ حتى تحت مسمى (التعديل الإيجابي).
وأخيراً، لماذا لا نسأل أنفسنا عن الإطراء الذي نسمعه من القريبين والبعيدين الذين يتساءلون عن سبب استقرار الاْردن في اقليم جلّه ملتهب؟!
نشكر الله أولاً، وثانياً لا بد لنا ان نعترف اننا وبكل ظروف معاناتنا الاقتصادية والتي سببها الرئيسي ظروف المنطقة منذ تسع سنوات، أثبتنا اننا شعبٌ ذكي آثر على ان يعض على جوعه ولا يهدم ما تم بناؤه، وثالثاً قيادتنا الهاشمية التي تدرك تماماً مسؤوليتها التاريخية تجاه الأمة وهذا الشعب الذي آمن بها، ويتمسك بها ويعد العدة ان شاء الله للاحتفال معها بمئوية الولادة السياسية للأردن الحديث العام المقبل.
* الكاتب سفير سابق