
القلعة نيوز:
للروائي الأردني غالب هلسا مجموعتان قصصيتان فحسب، إحداهما بعنوان "زنوج وبدو وفلاحون"، وهي فاتنة حقاً، وكتبها مثل الأخرى "وديع والقديسة ميلادة وآخرون" في خمسينيات القرن الماضي، في مصر وليس الأردن، ويرصد فيهما الانتقال العسير للمجتمع من البداوة إلى المدينة، بحفر عميق (بالغ الإمتاع أيضاً) في الشخصية الأردنية، إذا جاز الوصف.
وهو ما لم يقيّض لهلسا الذي يعتبر من كبار الروائيين العرب في تاريخ السرد، معرفة مآلاته، وأقصد الانتقال المجتمعي العسير، فالرجل الذي لم يعد إلى بلاده منذ خرج منها كان محكوماً بهواجسه لا أصوله، بهويته الإبداعية لا الوطنية، ما جعله مصرياً وجزءاً أصيلاً من حركة السرد هناك، وخصوصاً اندفاعة الستينيات والسبعينيات بأوديبيّتها العنيفة في التجريب، رداً على هيمنة السرد المحفوظي وصعوده المذهل في تلك الحقبة.
كما أنّ بإمكانك اعتباره سورياً وعراقياً وفلسطينياً إذا شئت، ورغم ذلك فإنّ أي قراءات عميقة عابرة للحقول المعرفية تتوخى فهم الشخصية الأردنية في أيامنا هذه، لا يمكنها القفز عن ذلك الكاتب الاستثنائي، وخصوصاً مجموعته "زنوج وبدو وفلاحون" التي نُشرت في منتصف السبعينيات، أي بعد نحو عقدين من كتابتها.
لماذا يُستحضر هلسا الآن؟ لأنّ ثمة ماضٍ يلقي بثقله على حاضر البلاد وينقضّ عليه. إنه يغزوه ويعيث فيه خراباً، في سعيه لإعادة المجتمع إلى ما قبل الدولة، إلى الزنوج والبدو والفلاحين، كأنّ عقوداً من التحديث والعمران الذي لم يتوقف يوماً عن التوسّع، غير كافية لتغيير بنيوي، حقيقي وأصيل في الشخصية.
لذلك؛ لم يفاجأ كثيرون بآخر مشاجرة جماعية في الجامعة الأردنية، وهي أم الجامعات في الأردن، ويعود تأسيسها إلى عام 1962، أي إلى سنوات ما قبل ولادة آباء الطلاب الذين أحالوا شوارع هذه الجامعة العريقة إلى ميدان غزو وفتوحات وحروب لا معنى لها. ولا يُعرف بعد لماذا انتكست البلاد فأصبحت ستينياتها أكثر تحضراً من راهنها؟ لكن ما يُعرف أنّ الجامعة الأردنية نفسها قد تصلح حالةً لدراسة هذا التحوّل المؤسف، فهي أنشئت على مساحة ضخمة من الأراضي الزراعية الخصبة في العاصمة عمّان، وأصبح الخصب صفةً من صفاتها، فقد شهدت خصباً إبداعياً غير مسبوق، ويبدو أنه لم يتكرر للأسف في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته، وثمة عدد كبير من كبار الكتّاب الأردنيين من خريجي تلك الحقبة التي أنتجت أيضاً عدداً من أهم المسرحيين الأردنيين، وكان هناك مسرح وندوات فكرية وأدبية ومؤتمرات وحركة طلابية، لكن ذلك كلّه بدأ يتراجع إلى أن وصلنا إلى ما وصلنا إليه.
يدافع مسؤولو الجامعة عن أنفسهم بأن أسباب العنف لا علاقة لها بالجامعة، فليس ثمة إجراء داخلي تسبب أو يتسبب بذلك، وهذا صحيح جزئياً، فالأسباب تعود إلى ما لم تفعله الجامعات لا إلى ما فعلته، بمعنى تراجعها عن دورها المفترض، مختبراً للمعرفة والحداثة والتحديث، وقصر دورها على إنتاج "متعلّمين"، وهذا بالضبط ما أدى بالإضافة إلى أسباب أخرى تتعلّق بسقوف الحريات المنخفضة والآخذة بالانخفاض أكثر فأكثر إلى صعود تشكيلات ما قبل الدولة في المجتمع مجدداً وبقوة.
أجريت الانتخابات النيابية الأخيرة وفق قانون انتخابي جديد، كان الهدف منه تغليب الحزبية على العشائرية، وإن برفق، لكنّ ذلك لم يغيّر شيئاً في البنية نفسها، لذلك وجدت من يذبح النوق في الشوارع، ويتغنّى بهذا الفخذ دون ذاك من العشيرة نفسها، وهو يرتدي ربطة عنق ويتابع أخبار البورصة في نيويورك. ومردُّ ذلك أنّ نوافذ التغيير تُهندَس بما لا ينسجم مع البديل المفترض، وهو رفع سقف الحريات، فلا يستقيم قانون عصري لتغليب دور الأحزاب مع إجراءات على الأرض تسعى لتأبينها أو لا تحتملها أصلاً فتقيّدها، ما يلجئها إما إلى العنف، ونراه في الجامعات ومواقف الحافلات، أو من خلال انبعاث تشكيلات ما قبل الدولة باعتبارها الملاذ الوحيد الآمن والمضمون.
أصبح لدينا نحو ثلاثين جامعة يا غالب، ومولات وسيارات حديثة لا تراها إلا في شوارع دول الخليج الثرية، لكن شيخ العشيرة الذي وصفته في "زنوج وبدو وفلاحون" ما زال هو نفسه، وإن خلع عباءته وأصبح يفتتح الصالونات ويرعى الأمسيات الثقافية وحفلات توقيع الكتب.
لا مسارح في الجامعات يا غالب، ألعلّها علامة على الرخاوة في مجتمعات تأخذ حقوقها بالسيف والحديد والنار؟ أنت تعرف هذه الأشياء يا رفيق.