وكما نعلم جميعاً فإن الأردن يعانى مصاعب اقتصادية جمّة، في مقدّمتها تباطؤ نسب النمو التي كانت خلال السنوات الثماني الماضية تقلّ عن نسب الزيادة السكانية، ما أدى إلى تراجع مستوى معيشة المواطنين، والعجز المزمن في الموازنة العامة، والارتفاع المضطرد في نسبة المديونية، وتراجع تنافسية الاقتصاد الاردني. وهنالك أيضاً العوائق التي تواجهها الصادرات والاستثمارات ونسب البطالة والفقر التي بلغت مستويات غير مسبوقة، وارتفاع أسعار الطاقة، وتراجع مستوى الخدمات، وكذلك تراجع مستوى الكفاءة في إدارة العديد من المؤسسات، وظاهرة ترحيل المشكلات دون اتخاذ القرارات المناسبة لحلها.
كل ذلك يعني بالنتيجة تفاقم الأزمات التي يترتب عليها أبعاد اجتماعية واقتصادية وسياسية تتمثَّل في تراجع الثقة بالمؤسسات الحكومية، وعدم الرضى عن المعالجات والحلول التي تقدّمها، ناهيك عن التحديات التي تفرضها الظروف الإقليمية بما فيها الكلف المترتبة على استضافة اللاجئين. ويتطلّب الوعي بهذه المصاعب بحثاً جاداً ومعمقاً في الأسباب والنتائج تمهيداً للخروج بأفكار إبداعية جديدة على سائر المستويات لمعالجة التشوّهات الاقتصادية التي نعاني منها، مع توافر تصور واضح للمدى الزمني الذي يمكن أن تستغرقه عملية المعالجة والإصلاح.
ضمن هذا الإطار، لا بد أن تُجرى الإصلاحات من خلال تكامل جهود جميع القطاعات في صيغة واضحة للإجراءات المناسبة، والتنسيق الفاعل بشأنها للتغلب على التحديات، وبمشاركة واسعة ما أمكن. كما لا بد أن تركِّز هذه الجهود على تنفيذ إجراءات عملية لها نتائج ملموسة ضمن إطار زمني محدد، فالإجراءات على أرض الواقع هي التي تعزِّز الثقة بالاقتصاد الأردني، وهذه الثقة كفيلة بدورها أن تُحدِث آثاراً إيجابية على الاستثمار وحركة الأسواق وغيرها.
ويمكن القول إنَّ النهوض بمعدلات النمو الاقتصادي يشكل مظلةً لمواجهة أغلب التحديات الاقتصادية، فهو يؤدي إلى توليد فرص عمل جديدة، وتوسيع إمكانات المالية العامة في تغطية الإنفاق الحكومي؛ ليس من خلال فرض مزيد من الضرائب ولكن عبر توسيع القاعدة الاقتصادية الوطنية، ورفع نسبة النمو الذي يحتاج إلى أدوات حقيقية جادة، ولا يمكن أن يتم ذلك دون العديد من الإجراءات على مختلف الأصعدة وأولها توفير بيئة استثمارية جاذبة، ما يعني بذل عناية خاصة بالاستثمارات المحلية والأجنبية، ورفع القدرة التنافسية للسلع الأردنية وتحسين جودتها، إضافة إلى العمل بكل السُّبل على تحسين البيئة الاستثمارية من خلال استقرار التشريعات، وتبسيط الإجراءات وتسهيلها؛ وصولاً إلى بيئة استثمارية محفِّزة للاستثمار المحلي وجاذبة للاستثمار الأجنبي، ويجب أن نتذكَّر دوماً أن رفع نسبة النمو الاقتصادي لا بد أن تكون بمشاركة فاعلة من القطاع الخاص.
ومن العوامل المهمّة في التأثير الإيجابي على النمو الاقتصادي موضوع الصادرات السلعية والخدمية، وهذا الجانب بالذات يفترض فيه مراعاة تنافسية السلعة، وتخفيض كلفة مُدخلات الإنتاج، والسعي إلى تخفيض كلف الطاقة والنقل. فالتصدير ليس ترفاً بل ضرورة
أساسية للنهوض بالمؤشرات الاقتصادية.
كما لا بد من إيلاء مشاريع الشراكة بين القطاعين العام والخاص اهتماماً خاصاً نظراً لدور هذه المشاريع في تعزيز النمو الاقتصادي وأثرها الإيجابي على مستوى الخدمة المُقدّمة إلى المواطنين وعلى الإنفاق العام، كونها لا ترهق الموازنة العامة، غير أن أثرها هذا يعود بالنفع على القطاعات كافة.
ثم لا بد، ولغايات تشجيع الاستثمار وإقامة المشاريع في مختلف المحافظات، من استثمار اللامركزية بحيث تصبح أداة لتحقيق التنمية الشاملة والمستدامة، بما في ذلك التنمية البشرية والاقتصادية.
أما الإصلاح المالي الذي يعد جزءاً من الإصلاح الاقتصادي الشامل، لكنه ليس بديلاً عنه؛ فالأساس هو تحفيز الاستثمارات وتعزيز بيئة الأعمال، وإتاحة المجال للقطاع الخاص ليتولّى دور الريادة في التنمية الاقتصادية، ولا بد أن تقوم الجهات الرسمية بتقديم الدعم اللازم
لهذا القطاع عبر مساعدته في تخفيض كلف الإنتاج، وعدم مزاحمته على مصادر التمويل، وتيسير سُبل وصوله إلى الأسواق العالمية، وتوفير الآليات التي تمكّنه من تحقيق المواصفات التي تتطلبها بعض الأسواق الخارجية.
وبالنسبة لمعضلة المديونية التي هي نِتاج عجز الموازنة العامة وعجوزات المؤسسات المستقلة، فإن المعالجة المبدئية تكمن في تخفيض عجز الموازنة العامة، ويتمحور التصدّى لهذه المعضلة عبر إطار عام وإجراءات عملية مرافقة له؛ فأما الإطار العام فهو يعتمد على تخفيض الدين العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي وتخفيض أعباء خدمة هذا الدين. ويعتمد أساس هذا الإطار على تخفيض عجز الموازنة العامة، ورفع نسبة النمو الاقتصادي، إلى جانب عدة إجراءات من أهمها عدم السماح بزيادة نسبة النمو في الدين عن نسبة نمو الناتج المحلي الإجمالي، مع إيجاد توليفة بين الدين الداخلي والخارجي تشكِّل عاملاً داعماً للنمو الاقتصادي، والحرص على أن يتم استخدام الدين كتمويل لمشاريع استثمارية وليس لتمويل نفقات جارية. كما أنه من الضروري أيضاً العمل على تبديل الديون المرتفعة الفوائد بأخرى ذات فوائد أقل، والسعي إلى إعادة جدولة بعض القروض، أو الحصول على خصم أو إعفاء منها أو تحويلها إلى استثمارات، وهنالك تجارب سابقة أثبتت جدواها في هذا المجال. وهنالك ضرورة للعمل من أجل الحصول على مزيدٍ من القروض الميسّرة والمنح والمساعدات من الدول الشقيقة والصديقة.
ومن الأولويات في هذا الصدد إعادة النظر في هيكل النظام الضريبي بالتعاون مع الجهات الدولية، بحيث يمكن من خلال الضرائب، بوصفها إحدى أدوات السياسة المالية، توفير التحصيل الضريبي الملائم للمساهمة في تقليص عجز الموازنة، وإعادة توزيع الثروة في المجتمع وتقليص التفاوت الاجتماعي، عدا استخدام الضرائب كأداة لتحفيز الاقتصاد وتحقيق مزيد من النمو الاقتصادي الذي ينعكس إيجاباً على المستويات المعيشية لجميع المواطنين. فسياسة فرض المزيد من الضرائب أو زيادة نسبها ليست هي الحل، وكل ما يمكن أن يتمخَّض عن ذلك هو مزيد من تراجع نسب النمو، وتقليص فرص العمل، وزيادة نسب الفقر؛ بل وحتى تراجع الإيرادات الضريبية لأنه وفي مرحلة معينة فإن الضريبة هي التي تقتل الضريبة. وقد أثبتت التجربة في عام 2010 أن التخفيض المدروس للضريبة أدى إلى زيادة التحصيلات الضريبية بشكلٍ مرن.
إن تنشيط الأسواق يحتاج إلى سياسة مالية مباشرة في الإنفاق الرأسمالي، كما يحتاج في نفس الوقت إلى سياسة مالية غير مباشرة عبر سياسات تخفيف الضرائب والرسوم، وترشيد السياسة الضريبية من خلال تخفيف الضغوط على القوة الشرائية للمواطنين، وهو أمر يتطلب أيضاً سياسات نقدية لا ترفع أسعار الفائدة، مع قيام المصارف بتسهيل الحصول على التسهيلات للأفراد والشركات، وتأكيد ضرورة أن تكون هذه التسهيلات موجهة للمنتج المحلي وليس للمستورد.
ومن أهم الإجراءات التي تخدم هدف النمو الاقتصادي وتسهم في معالجة بعض جوانب الترهل التي يعاني منها القطاع العام، حُسن إدارة الملفات الاقتصادية من قبل أشخاص مؤهلين وذوي خبرة وكفاءة، وبحيث يشمل ذلك مختلف المستويات الوظيفية. ويمكن في هذا السياق تكليف بعض الأجهزة الرسمية بتنفيذ مشاريع رأسمالية أو في قطاع البنية التحتية، وخاصة في المجالات التي لا يقدم القطاع الخاص عادةً على تنفيذ مشاريع فيها. وهناك أيضاً مشاريع أخرى يمكن النظر فيها؛ مثل إنشاء السدود والحفائر المائية التي قد تشكل قاعدة لمشاريع زراعية في المناطق الصحراوية من المملكة.
لقد أصبح من الضروري التفكير باستراتيجية واضحة تمنح القطاع العام حجمه الحقيقي الذي يخدم الاقتصاد الوطني ويتيح للقطاع الخاص أن يقوم بدوره التنموي. ونحن هنا لا نتحدث عن الحكومة المركزية فقط وإنما أيضاً عن المؤسسات المستقلة والسلطات المحلية المختلفة، وغيرها. ولأن الاقتصاد كل لا يتجزأ فلا بد أن نذكِّر بأهمية تحسين الخدمات الحكومية وخدمات المجالس البلدية، فمن حق المستثمر والمواطن الحصول على أفضل خدمة، بأقل كلفة وأقصر وقت، ووفقاً للتشريعات النافذة، على أن تتوفر الخدمات الأساسية للمواطنين بشكل كافٍ وملائم في مختلف المناطق، وفي إطار من الشفافية والعدالة التي لا تتحقق إلا بتوافر تشريعات ملائمة لتوزيع عادل للدخل ومكافحة الفساد والمحسوبية.
إضافة إلى ما سبق فإن تشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة عبر تيسير حصولها على التمويل، والاحتفاء بالمبادرات الشبابية والريادية ودعم الابتكار والإبداع، والاهتمام بالتطور التكنولوجي؛ كل ذلك يشكِّل مصدراً مستقبلياً للنمو وتوليد فرص العمل، فزيادة مشاركة الشباب والمرأة في الاقتصاد تمنحه دفعة متقدمة نحو التطور والإنجاز، ويمكن النظر في منح جانب من أراضي الخزينة التي تشكل 85 %من نسبة مساحة أراضي المملكة، للمشاريع الشبابية والريادية.
ولا يغيب عن البال أن تعزيز العلاقات مع دول الجوار العربي ومع الدول العربية الأخرى، اعتماداً على أن هذه المجموعة هي من أهم الشركاء التجاريين للمملكة، وتبعاً لذلك ضمان تحقيق أقصى استفادة ممكنة من عمليات إعادة الإعمار. كما لا بد من الالتفات إلى
أهمية العلاقات مع دول لها وزنها الاقتصادي العالمي، مثل الصين والهند؛ ليس فقط بسبب قدراتهما الاقتصادية وإنما لأن هاتين الدولتين هما أيضاً من أهم الشركاء الاقتصاديين الحاليين، ويمكن الاستفادة من الفرص عبر تلك العلاقات وضمن مشروع الطريق والحزام، والبنك الآسيوي، للاستثمار في البنية التحتية.
(الرأي)