
القلعة نيوز:
لن يستطيع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الاعتماد بشكل متزايد على ولاء الجيش. فمن خلال تسييسه المؤسّسة العسكرية وتفريغ العملية الانتخابية، زرع بذور الصراع وعدم الاستقرار، فتقوّضت استدامة النظام واحتمالية انتقال سلمي للسلطة. وإذا تصاعدت الاحتجاجات وتشبّث بالسلطة، فقد تنحرف تركيا نحو مسار مشابه لسوريا أو ليبيا، وهو ما يعني الفوضى والصراع الداخلي الطويل الأمد.
يعتبر أوزكان أنّ قرار إردوغان الشهر الماضي سجن خصمه السياسي أكرم إمام أوغلو، الذي أشعل أعنف الاحتجاجات في البلاد ووصفه المراقبون بأنّه نقطة الـ”لاعودة” للديمقراطية التركية وخطوة حاسمة نحو الاستبداد الكامل، يُظهر أنّ إردوغان لن يسمح بأيّ تحدّيات موثوقة لحكمه، وطريق المعارضة يضيق نحو الانتصار الانتخابي، إذ يظهر، مع تآكل استقلال القضاء وحرّية الإعلام وإجراءات الانتخابات العادلة، أنّ صندوق الاقتراع لم يعد وسيلة ذات صدقيّة للتغيير السياسي.
على الرغم من أنّ خطوات إردوغان تهدف إلى تعزيز نظامه الاستبدادي، لا تملك تركيا، في رأي الباحث، الهياكل الاقتصادية والسياسية اللازمة لدكتاتورية شاملة. فأهمّ ما يفتقر إليه إردوغان هو وجود جهاز قمعيّ موالٍ تماماً قادر على فرض إرادته من دون قيد أو شرط، وخصوصاً الجيش الذي طالما اعتُبر أن لا غنى عنه للأنظمة الاستبدادية القويّة، الأمر الذي يضع تركيا في مأزق محفوف بالمخاطر بين الاستبداد التنافسي والدكتاتورية الصريحة، فيصبح النظام عرضة للاحتجاجات العامّة، لكنّه لا يملك القدرة القمعيّة اللازمة لسحقها بشكل حاسم. وهو ترتيب قد يأتي بنتائج عكسية إذا استمرّ إردوغان في هذا المسار.
تسييس الجيش
يعتبر الباحث أنّ محاولات إردوغان المستمرّة لحماية الجيش من الانقلابات من خلال إعادة تشكيل قيادته وتطهيره من المعارضين المشتبه فيهم، خاصة بعد محاولة الانقلاب العنيفة والفاشلة في عام 2016، وعلى الرغم من نجاحها في ضمان طاعة القمّة، فشلت في بناء قوّة موالية بشكل موحّد، بل وأدّت إلى وجود قوّة مسيّسة بعمق على المستويات كافّة. والفرق مهمّ: الجيش الموالي مطيع بلا قيد أو شرط ومتحالف أيديولوجيّاً مع النظام، بينما الجيش المُسيّس مُشرذم، ويخضع لضغوط التوقّعات السياسية، ويشعر بانعدام الثقة داخليّاً خلف واجهة موحّدة ومطيعة.
من خلال تسييس الجيش، يعتبر الباحث أنّ إردوغان عرّض أيضاً مستقبل نظامه للخطر. فإذا استمرّ في تصعيد القمع وحاول استخدام الجيش لوقف الاحتجاجات، فإنّه يُخاطر بالمبالغة في تقدير موقفه. فقد يرغب الجيش في البقاء على الحياد، لكن إذا تمّ الضغط عليه بشدّة للامتثال لمطالب النظام، فقد ينقسم ويؤدّي انقسامه إلى عواقب مزعزعة للاستقرار ليس في تركيا فقط، بل وأيضاً في المنطقة بالكامل. ويشير في هذا السياق إلى أنّ حركات الاحتجاج المناهضة للحكومات في المنطقة جزء من الربيع العربي، وكان مصير الأنظمة الاستبدادية يعتمد على استعداد الجيش لقمع المعارضة.
ليست تركيا بمنأى عن هذه الديناميكيّات، ورسالة نظام إردوغان واضحة: لن تتسامح الدولة مع المعارضة، وستدافع قوّات الأمن، بما في ذلك الجيش، عن النظام. لكنّ هذا الخطاب في رأي الباحث يخفي حقيقة أساسيّة: ففي حين ملأ إردوغان مؤسّسات الدولة بالموالين السياسيين، فليس من السهل إعادة تشكيل الجيش، الذي يميل إلى تخفيف التدخّل السياسي. ففي تركيا تبدأ التنشئة الاجتماعية العسكريّة مبكراً وتكون مكثّفة ودائمة. ولا يمكن هندسة الولاء الأيديولوجي من خلال ملء الرتب بتعيينات سياسية، إذ إنّ العديد من المجنّدين يأتون من خلفيّات غير سياسية أو ينخرطون في ما يمكن تسميته "تزييف نمط الحياة”: أي تكييف مظهرهم وسلوكهم لتلبية التوقّعات السياسية دون استيعاب عميق لأيديولوجية النظام. ولذا إظهار الولاء السياسي والاستعانة بمرجع سياسي قد يساعدان المرشّحين على الالتحاق بالوظائف أو الحصول على ترقيات، لكنّهما لا يضمنان ولاءً طويل الأمد.
يضاف إلى ذلك أنّ أنماط تجنيد الجيش تتأثّر أيضاً بالشبكات الاجتماعية التي تربط القوّات المسلّحة بمناطق وفئات اجتماعية محدّدة.. وعلى الرغم من أنّ الحكّام المستبدّين عند إنشاء جيش نظامهم غالباً ما يعطون الأولويّة لبناء الولاء في القمّة، من خلال ترقية الجنرالات المتوافقين أيديولوجيّاً أو عرقيّاً، فإنّ هذه الاستراتيجية لها حدودها. فحتّى الجنرالات الذين ارتقوا في عهد إردوغان، مثل توفيق ألغان، أظهروا ولاءهم للمبادئ التأسيسية للجمهورية، وكذلك شخصيّات محافظة مثل خلوصي أكار. أمّا الرتب الوسطى الذين يقودون الوحدات ويتفاعلون يوميّاً مع الجنود والمدنيين فينغمسون في الثقافة العسكرية المهنيّة، وهذا ما يجعل من الصعب رصد ولاءاتهم السياسية.
يحذّر الباحث من أنّ بناء جيش مطيع حقّاً يستغرق وقتاً طويلاً، لكنّ الانشقاق يبقى خطراً قائماً، مشيراً إلى "انكشاف هشاشة سيطرة إردوغان على الجيش في آب 2024 في حفل تخرّج في الأكاديمية العسكرية التركية، حين رفع مئات الملازمين الجدد سيوفهم وأعلنوا الولاء ليس للرئيس، بل للمبادئ العلمانية والديمقراطية للجمهورية. وكان هتافهم "نحن جنود مصطفى كمال” بمنزلة استحضار واضح لمصطفى كمال أتاتورك، مؤسّس الجمهورية التركية، وإرثه العلماني. فردّ إردوغان بعمليّات تطهير بالكاد وافقت عليها لجنة تأديبية للجيش منقسمة، وأُرغم رئيس أركان الجيش، الذي صوّت ضدّ عمليّات الفصل، على الاستقالة”.
أكثر من سخط سياسيّ
بالإضافة إلى هذه الحادثة التي كشفت عن قيادة عسكرية بعيدة كلّ البعد عن الوحدة، يشير الباحث إلى مؤشّرات انتخابية تزيد من تعقيد خطاب ولاء الجيش لإردوغان، "ففي الانتخابات المحليّة لعامَي 2019 و2024، وعلى الرغم من حملة غارقة في القومية والرمزية العسكرية، دعم الضبّاط وعائلاتهم بأغلبيّة ساحقة مرشّحي المعارضة مثل إمام أوغلو ورئيس بلديّة أنقرة منصور يافاس. وفي إسطنبول وأنقرة، سجّلت الدوائر الانتخابية القريبة من المساكن العسكرية دعماً للمعارضة يصل إلى 80 في المئة. حتّى في الثكنات الأصغر، حيث ذهب جنود مجنّدون ذوو ميول محافظة إلى صناديق الاقتراع، لم يحقّق حزب العدالة والتنمية الذي يتزعّمه إردوغان النتائج المتوقّعة”.
في رأي الباحث، تعكس هذه الاتّجاهات أكثر من سخط سياسي. فالأُسر العسكرية تخضع بسبب التضخّم المتزايد ونقص المساكن وتراجع القدرة الشرائية للوضع الاقتصادي الهشّ نفسه الذي يغذّي السخط على نطاق أوسع. وبعيداً عن التماسك، يقوّض تسييس إردوغان للجيش فعّاليّته أيضاً. وقد كشفت الاستجابة لزلزال عام 2023 عن عواقب جهود إردوغان لمنع الانقلاب، إذ فشل الجيش في التعبئة بفعّالية خلال الساعات الحرجة الأولى، بسبب سلسلة قياديّة حذرة من التصرّف دون توجيه سياسي. وجاء حادث التخرّج العام الماضي ليزيد من قلق الضبّاط من أن تتمّ التضحية بالكفاءة المهنيّة على مذبح التوافق السياسي.
يحذّر أوزكان من أنّ تركيا اليوم أصبحت في منطقة أكثر ظلاماً. تعيش في نقطة وسط غير مستقرّة، يمكن تسميتها "استبداداً غير تنافسي” أو "دكتاتورية شبه قسرية”، وهو ما يشكّل خطراً فريداً من نوعه. فمن خلال تسييس المؤسّسة العسكرية وتفريغ العملية الانتخابية، زرع إردوغان بذور الصراع وعدم الاستقرار، فتقوّضت استدامة النظام واحتمالية انتقال سلمي للسلطة. ومن أسوأ السيناريوهات، إذا تصاعدت الاحتجاجات وتشبّث إردوغان بالسلطة مهما كلّف الأمر، فقد تنحرف تركيا نحو مسار سوريا أو ليبيا، أي صراع داخلي طويل الأمد وفوضى. قد يسعى إردوغان إلى استخدام القوّات المسلّحة لإسكات المعارضة. ولكن كما يُشير تاريخ تركيا والمنطقة ككلّ، كلّما زاد اعتماد الحكّام المستبدّين على جيوشهم للقمع، زاد احتمال فقدانهم السيطرة عليها.