وإذ تُظلّلنا ذكرى وطنية عزيزة ومجيدة، هي الذكرى الرابعة والسبعين لاستقلال بلادنا الأردنية، فإنّ معاني ومضامين الاستقلال العميقة تُحتّم علينا التفكير الجادّ بكيفية صيانة هذا الاستقلال وتعزيز وسائل استمراره، وتطوير أدوات بقائه، في عالم رَخوٍ، لم يَعُد أحدٌ يحمي فيه أحداً؛ حيث تتداعى فيه دولٌ ومجتمعات وكيانات كبرى، فضلاً عمّا يجاورنا من مخاطر مصيرية متصاعدة، يصنعها النَّهمُ المتواصل لدولة العدوان الصهيوني، تلك التي لم تنقطع أطماعها في بلادنا.
ولعلّ أوّل أشكال حماية الاستقلال وصيانته هو الالتفات الجدّي إلى التزايد المضطرد والمتنوّع لطبقة (كاظمي الغيظ) في بلادنا؛ فثمّة مشاعر عامة وجامحة ومتنوعة متأججة تجاه العقم العربي حول فلسطين. وهناك ضحايا الفقر والبطالة، والمتعطّلين من حاملي الشهادات الجامعية والعليا؛ أولئك الذين لم تَعُد تقنعهم أحاديث وإعلانات الحكومة عن تحسّن مستوى المعيشة؛ ولعلّ الأخطر، في كلّ ذلك، هو ما وصل إليه المواطن من اعتقاد بأنّ الحكومة (تسرق) منه قوت أبنائه..!
وعلى الرغم من ثقل وطأة التراجعات العربية، التي ترافق الذكرى الثانية والسبعين لنكبة العرب في فلسطين، فإنّ الانتقال العملي لتطبيق المرحلة التالية لمشروع صفقة (ترامب_ نتنياهو) الكارثية، يفرض علينا القيام بجهود رسمية وشعبية متقدمة لمقاومة هذا المشروع بمرحلته الأخطر على الدولة الأردنية وشعبها ومستقبلها؛ تلك المرحلة المتمثلة في مضامين اتفاق حكومة (غانتس_نتنياهو) الصهيونية شديدة التطرّف والعدوانية، بجوهرها القائم على البدء بضمّ أراضي مستعمرات الضفة الغربية وغور الأردن الفلسطيني إلى دولة العدوان الصهيوني، مع ما سبقها من مراحل إكمال تهويد القدس، وقَونَنة (يهودية الدولة الإسرائيلية)، وهو الاتفاق الذي رعاه مؤخراً وزير الخارجية الأمريكي بومبيو، كممثل لإدارة الرئيس ترامب.
إنّها مرحلة تجعل الأردنيين، كل الأردنيين، يتحسّسون الخطر على كيانهم وهويتهم ومستقبلهم وثقافتهم. ما يفرض علينا جميعاً الوقوف سداً منيعاً، ويداً واحدة، في مواجهة ما هو قادم من مشروع صهيونيّ. فمضامين المصلحة الوطنية الأردنية العليا مشتبكة عضوياً ومصيرياً مع مآلات القضية الفلسطينية، أو ما اتّفق على تأجيله وتسميته (قضايا الحلّ النهائي) في الجانب الفلسطيني والإسرائيلي. فالقدس، والمستوطنات، والحدود النهائية للدولة الفلسطينية المأمولة، ومصير اللاجئين، كلّها تقع في صلب المصلحة الوطنية والاستراتيجية العليا للشعب والدولة الأردنية، وهي ليست ترفاً، أو شعاراً عاطفياً. بل هي أيضاً المضامين الفعلية التي تسعى الإجراءات الإسرائيلية الجديدة لتعطيلها قسراً وإلى الأبد، منعاً لأية فرصة لحل الصراع العربي الصهيوني في المنطقة سلميّاً.
إنّ برنامج الحكومة الإسرائيلية الجديدة المعلن، بضمّ مستوطنات الضفة الغربية وغور الأردن الفلسطيني الشمالي وشمال البحر الميت من الجهة الفلسطينية، يعني فيما يعنيه تغيير خريطة المملكة الأردنية الهاشمية، وقطع التواصل البريّ مع أراضي الضفة الغربية وأيّ جزء من فلسطين، فضلاً عمّا يعنيه من تغيير لوجه المشرق والمغرب العربيين، استراتيجيّاً، لحقبة تاريخية طويلة قادمة؛ كما أنه، وبصرف النظر عن كارثتيه للفلسطينيين ومستقبل قضيتهم، يَعني قطع التواصل البرّيّ المباشر والكامل مع ما تبقّى من الأرض الفلسطينية، ومستقبل الوجود العربي فيها، وكذلك قطع التواصل البرّي الوحيد والممكن، بين عرب المشرق في آسيا، وبين عرب المغرب في إفريقيا؛ بعد أنّ عطّل قيام دولة إسرائيل في العام 1948 ذلك التواصل عبر أرض فلسطين التاريخيّة. وهي خطورة مزدوجة، وأخطر، في جوهرها، من تضمين وعد بلفور لصكّ الانتداب البريطاني على فلسطين وشرق الأردن، في مطلع عشرينيات القرن العشرين، ومن الثلاثين عاماً، التي استغرقتها بريطانيا (1918_1948)، في صناعة نواة الوطن القومي اليهودي في فلسطين التاريخية. فضلاً عن محاصرة قطاع غزة وفصله عن الأراضي الفلسطينية في المدى المتوسط.
إنّنا نُدرك ما يسعى إليه اليوم بعض العرب الرسميين، من إشاعة وتكريس بأنّ إسرائيل ليست خَطَراً، ولَيست عَدوّاً، وبوسائل متعدّدة، لكسر المحرّمات الوطنية والقومية والثقافية، شعبيّاً، مع دولة الكيان الصهيوني، تمهيداً للانتقال العلني لإعلان شراكة رسمية مع قادة دولة الاحتلال؛ كما ندرك أيضاً استعدادات بعض العرب الرسميين المتسارعة للقفز والركوب، الواهم والملتبس، في عربة قطار المشروع الصهيوني. وهو وهم يشي بحجم فداحة العَجز العربيّ، وبكارثية اللحظة العربية الراهنة، في وصولها إلى مستويات كارثية غير مسبوقة، تتجاوز في خطورتها التهديدات التقليدية للأمنين الوطني والقومي العربيين؛ بل في وصول ذلك العجز إلى مرحلة تهديد الوجود العربي برمّته، ككيانات ودول ذات سيادة تقليدية، كما كان معروفا طوال النصف الثاني من القرن العشرين. وهو أمر أقلّ ما يقال فيه أنه مريبٌ، وخصوصاً فيما يجري تسريبه حول قضية الأمة المركزية، القضية الفلسطينية.
إننا نؤمن بشدّة بقدرات أمتنا وشعوبها العربية، ونثق برفضها القاطع لكلّ أشكال تزوير هويتها وضمائرها ووجدانها، تجاه كلّ قضاياها الفعلية والحقيقية، وعلى رأسها قضية فلسطين المركزية.
فلا يَغرّن أحدٌ أنّ مشاريع إسرائيل الحالية، على الرغم من خطورتها، ستقف عند ما هو ظاهر منها حالياً فحسب، فالمشروع الصهيوني الاستراتيجي هو أخطر مما يظنّ كثيرون، وخصوصاً علينا نحن في الوطن الأردني، الذي ما زالوا يرونه المرحلة التالية للانقضاض عليه، بعد أن ابتلعوا الوطن العربي الفلسطيني أو كادوا.
وكَي لا نُلدغ من الجحر مرّتين، فإنّني أتمنّى على قيادتنا استخلاصَ العِبَر مما جرى خلال قرن كامل في فلسطين؛ ذلك أنّ المشروع الصهيوني نجح حتّى الآن في إنجاز ما خطّط له، أو كَادَ، في ضفّة الأردن الغربية، وهَا هُم قادة ذلك المشروع اليوم يُعلون الصوتَ تدريجياً نحو ما يؤمنون به أنّ بلادنا الأردنية هي ضفّتهم الشرقية كذلك..! فلا أحد ينكر اليوم أنّ هذا هو هدف إسرائيل المبطّن تجاه الأردن، والذي يتحوّل بالتدريج إلى إعلانات صريحة.
لكلّ ما سبق ولغيره، فإنّ الواقع والواجب والمسؤولية تُحتّم علينا القيام بإجراءات عملية، لتحصين بلادنا وحمايتها، لعلّ أبرزها؛
_ ضرورة تفعيل مؤسسات الدولة الدستورية، وإشراك الرأي العام الأردني فيما تنوي الدولة اتخاذه من خطوات لحماية أمننا ومصالحنا في مواجهة هذه الاتفاقات والممارسات العدوانية والمصيرية. ونحن نقف اليوم أمام أحداث جدّيه ومصيرية، فقد وصلت النار إلى بيوتنا. وفي لحظة تاريخية كهذه ستكون مسؤولية القرار ضخمة وبذلك تصبح تكاملية القرار فيها أساسية.
- بكل وضوحٍ أقول: إنّه ليس أمامنا، كشعب وكدولة أردنية، سوى الاحتكام إلى واقع مصالحنا ومصيرنا، الذي يُحتّم علينا ضرورة اشتباكنا الفعليّ مع كلّ مفردة إجرائية تقوم بها إسرائيل في الأرض الفلسطينية، بالرغم من حالة الضعف الفلسطينية، وتطوير ذلك الاشتباك شعبياً ورسمياً.
_ إنّ كلّ حقائق السياسة، التي تمّ فرضها قسراً على بلادنا الأردنية والمنطقة، تقضي بضرورة إعادة تعريف المفاهيم السياسية، التي استخدمناها ونستخدمها، في توصيف حياتنا وأحوالنا الكارثية العربية، وخصوصاً في المضامين الفاصلة بين مفهومي (التسوية) و(السلام)، بل وإعادة تقييم مسيرتنا وقراراتنا، بما في ذلك معاهدة السلام.
_ نحن في الأردن نستطيع امتلاك القدرة على التأثير في هذه المرحلة وتعطيل مفاعيلها الكارثية علينا وعلى مصيرنا، وهي قدرة مَرهونةٌ بإعادة تحصين الدولة والمجتمع وتَحديثهما، لمواجهة القادم الأخطر، بالبدء العاجل بجرعة جريئة من الإصلاح؛ جرأةٌ تُعلي من شأنِ المفهومِ وقيمتهِ، بعدَ أن جرى استهلاكُهُ كثيراً في الخطاب السياسي العربي الداخليّ العام. فتصريحاتنا السياسية، المتباعدة والمتقطّعة، لم تعد تكفي.
لقد أصبح واضحاً مدى الخطر الذي تمثّله الأطماع الإسرائيلية المتزايدة على الأمن الوطني الأردني، أرضاً وشعباً وحُكماً. ووصلت نار التطرّف والعدوانية إلى درجة من الجرأة والعلانية بحيث أصبح السكوت عنها أو تجاهلها مدعاة لإثارة الريبة والشكّ لدى مجتمعاتنا. فالمواطن الأردني هو شريك مع رأس الدولة والقوّات المسلّحة الباسلة في حماية الوطن والدفاع عنه، كلٌّ بحسب قدرته وموقعه، وقد كتبت، قبل أسابيع، مقالة بعنوان (شَعبٌ وجيش)، ودورهما التكاملي في حماية الوطن.
* طاهر المصري رئيس وزراء أردني أسبق.