فضفضة في منام – سؤال يبحث عن بوح عشوائيات في الحب لسنينٍ كثيرةٍ مضَتْ وما تزال ، منْ عادتي في أواخر الليل ، أن أُنصِتَ لشيءٍ منْ تراتيل المُقرئ الشيخ عبد الباسط عبد الصمد .
في تواليَ ليلةٍ فائتة من ليالي آذار الهدَّار ، قارسة البردِ غزيرة المطر ، رعدها مُتقطّعٌ ووميض برقها يخطف الأبصار ، رنّ جوّاليَ بإصرارٍ .
كنتُ لحظتها مُنتشيا مُنتصتا مُتبصرا في المضامين الرّبانية البديعة في قصار السور .
أخفضتُ صوتَ المُسَجِّل بجانبي دون أن أغْلِقَه . أمسكتُ بالهاتف مُبادرا بالتّحية .
ما أنْ ردَّت تَحيتي ، عرفتُها . فقد كانت لسنواتٍ طوال ، صديقةً لزوجتي وزميلةً لها في مهنة التربية والتعليم في الشارقة .
لم أسمع منها منذ أن توفيت زوجتي يرحمها الله .
ما أنْ أذِنتُ لها في أن تستعيرَ شيئا منْ وقتي للفضفضة ، قالت بقلق بيِّنٍ : يا شيخنا ، إسمح لي ان أسألك ، إن كان الحنين قد أيقظك من نومك ذات ليلة ، وليس منْ حولِك سوى الفراغ والفراق والشوق ، كما هو حاليَ الآن ؟
ماذا اعتراكَ لحظَتها ؟ هل استيقظتَ مذعورا مفزوعا ؟ هل استسلمت لأنينك ، ودخلتَ في نوبةِ وجعٍ أو رعدَ بُكاء ؟ قلتُ مُتوجّسا : نعم ، بلْ وكثيرا ولله الحمد . فأنا مِمن يحبون إطَآلة آلنَظَرِ في الحنين .
أسرح معه كَي آرى نهايتَهُ ، إبتسامة أمْ تنهيدة . ولكنْ لِمَ تسألينَ يا دكتورة ؟!
قالت بصوت يكاد يخنقه حزن موجوع : ما أن انتهى العزاء بالمرحوم زوجي ، ومنْ جاءَ رجَع .
إفْتَقدتُه .
إنه هناك ووحدي هنا .
أخذوا قليله . أخذوا قامته ، عينيه ، شعره ومبسمه . وهنا باقٍ كثيرُه . منذ أن رحل قبل أكثر من عامين ، إنكفأ بعضي على ما تبقى من بعضي ، مُزاحما ما يُدَثّرُني مِنْ كثيره . قلت مُواسِيا : مــا أصـعــب أن يُـصـبـح المرءُ تــائـهـا ، بـيـن حــلــمٍ لمْ يـَـكـتـمـل ، وواقــعٍ ما عادَ يـُـحـتَـمَـل يا سيدتي . قالت وبنفس الوتيرة من الحزن الموجوع : كلما سألني الناس عنه ، أفتقد من يربّتُ بيده على قلبي .
أحتار فيمن آخذ معي ، وأيدي كلُّ مَنْ حوليَ مشغولةٌ ؟!
شوقي للشريك ، طال واستطال في كل دهاليز حياتي .
أوليسَ منَ المُعيبِ أو المُحزنِ أنْ أشتاقَ لشريكٍ لهذه الدرجة ، ولا أجِدُه الاّ في صديقٍ يَصغرُني بعدّةِ سنين ؟!
قلت مُطمئنا لقلقٍ وحيرةٍ بانَتا في صوتِها المُتوجّس : نعم للاشتياق لذة ، لكن إن زاد عن حدّه وتمادى ، وضاق اتساع الصبر ، فهو عذاب صارخ وإن صمت . تتحول كل الأماكن الجميلة في دواماته ، أسباباً لا تدعو إلاّ للحزن المُمِضّ.
قالت بلهفة متعجلة : يا شيخنا ، بربِّ كلِّ الناس ، وأنت تعلم حجمَ الألم الذي يُعشعش في أعماقي الآن ، ألا تشتعلُ حِقدا على أرملةٍ شابَّةٍ تجاوزت الستين من عمرها ، تتعامل بلطفٍ أنيق نبيل ، مع من يصغرها بعشرٍ من السنين ، يحبها ويكافؤها في كل ما عدا عد السنين والايام ؟!
وقد حسبتها على ضفاف نوبة من البكاء ، سارعت للقول مقاطعا: بل يَعني أنها ناضجة بما يَكفي لتحتمل تبعات الابتسام .
وفي هذه اللحظة ، سمعت عبد الباسط يرتل بكل ما في صوته من عذوبة : ( والضحى ، والليل اذا سجى ، ما ودعك ربك وما قلى ، وللاخرة خير لك من الاولى ، ....) ، ما أن وصل في الترتيل إلى ولسوف يعطيك ربك فترضى ، إلا وكنت قد تذكرت أمي يرحمها الله ، فقد كانت قبل عشرات السنين ، قد أرضعتني رضاً عزَّ مثيله ، حتى إرتويت .
فغفوتُ وسكينةٌ تغمرني من رأسي حتى قدمي . ما استيقظتُ منها إلا على مؤذن الفجر يُنادي . أفقتُ ودمعيَ مُبَلِّلا مِخدتي . واصلتُ البكاءَ حتى شهقت وأنا وحديَ في السرير ، كخروفٍ أضاعَ قطيعَه . فناجيتُ ربّي قائلا : يا عالِمَ الأسرار علمَ اليقين ، يا كاشفَ الضُّرِّ عنِ البائسين ، يا قابِلَ الأعذارِ : عُدْنا إلى ظلِّكَ . فاقْبَلْ توبةَ التاَّئِبين .