
القلعة نيوز:
يشهد الاقتصاد العالمي في السنوات الأخيرة تسارعًا مقلقًا في وتيرة نمو الديون، سواء على مستوى الحكومات أو الشركات أو الأفراد وأصبح يشكّل عبئًا متزايدًا على الاستقرار المالي للدول وخاصة الناشئة والفقيرة.
وبدلاً من أن تكون الديون وسيلة لتحفيز النمو والاستثمار، تحوّلت في الكثير من الدول إلى قيدٍ يخنق الاقتصادات، ويحدّ من قدرة الحكومات على المناورة في مواجهة التحديات.
ويثير هذا الوضع تساؤلا جوهرية حول استدامة السياسات المالية العالمية، ومدى قدرة الاقتصاد الدولي على تجنّب أزمة ديون شاملة قد تعصف بأسواق المال والنمو الاقتصادي في السنوات القادمة.
وطالب أغوستين كارستنز المدير العام لبنك التسويات الدولية الثلاثاء، الحكومات في العالم كبح الارتفاع "المستمر” في الدين العام فيما يجعل ارتفاع أسعار الفائدة المسارات المالية لبعض البلدان غير مستدامة.
وأوضح أن حالات العجز الكبير في الميزانيات والديون المرتفعة بدت مستدامة عندما أبقيت أسعار الفائدة منخفضة بعد الأزمة المالية العالمية، مما سمح للسلطات المالية بتجنب اتخاذ خيارات صعبة مثل خفض الإنفاق أو زيادة الضرائب.
وقال كارستنز في خطاب ألقاه في مؤتمر استضافه بنك اليابان المركزي في طوكيو "لكن أيام الفائدة المنخفضة للغاية قد ولت. أمام السلطات المالية نافذة ضيقة لترتيب أوضاعها قبل أن تبدأ ثقة الجمهور في التزاماتها في التلاشي.”
وأضاف "الأسواق تستيقظ بالفعل على حقيقة أن بعض المسارات ليست مستدامة،” محذرا من أن الأسواق المالية قد تعاني فجأة من عدم الاستقرار في مواجهة الاختلالات الكبيرة. وأردف "لهذا يجب البدء في ضبط أوضاع المالية العامة في العديد من الدول الآن.”
وجاءت التحذيرات في أعقاب الارتفاعات الأخيرة المطردة في عوائد السندات في الولايات المتحدة واليابان وأوروبا، مدفوعة بأسباب منها توقعات السوق بأن حكومات هذه الدول ستزيد من الإنفاق الممول من خلال زيادة الديون.
وقال كارستنز إن "التخلف عن سداد الدين العام يمكن أن يزعزع استقرار النظام المالي العالمي ويهدد الاستقرار النقدي، حيث قد تضطر البنوك المركزية إلى تمويل الدين الحكومي، مما يؤدي إلى التركيز على ضبط المالية العامة أكثر من السياسة النقدية.”
وأضاف "ستكون النتيجة ارتفاع التضخم وانخفاضا حادا في أسعار الصرف. وفي ضوء هذه الاعتبارات، من الضروري أن تعمل السلطات المالية على كبح جماح الارتفاع المستمر في الدين العام.”
ويهدف بنك التسويات الدولية إلى تعزيز التعاون النقدي والمالي الدولي بين البنوك المركزية وأن يكون بنكا للبنوك المركزية.
ويعتقد كارستنز أن العديد من البلدان ستواجه ضغوطا لزيادة الإنفاق العام بسبب شيخوخة السكان وتغير المناخ وارتفاع الإنفاق الدفاعي.
وقال "يجب أن توفر السلطات المالية مسارا شفافا وموثوقا لحماية الملاءة المالية، مدعوما بأطر مالية أقوى. ويجب عليها بعد ذلك أن تفي بالتزاماتها.”
وبالنسبة للسياسة النقدية، فيرى كارستنز أنه ينبغي عدم توقع أن تعمل البنوك المركزية على استقرار التضخم "في آفاق قصيرة جدا وضمن نطاقات ضيقة.”
وأضاف "هذا مهم للغاية لأن التضخم، مثلما أظهرت الأحداث الأخيرة، سيعتمد على عوامل بعضها يخضع لسيطرة البنوك المركزية.”
وسجل رصيد الدين العالمي مستوى قياسيا جديدا في نهاية العام 2024 بلغ 318 تريليون دولار في وقت يعاني فيه الاقتصاد العالمي من تباطؤ النمو، الأمر الذي يهدد الجهود الإنمائية في الدول ضعيفة الدخل.
وساهمت الأسواق الناشئة، بقيادة الصين والهند والسعودية وتركيا، بنحو 65 في المئة في نمو الدين العالمي في العام الماضي.
وكان تقرير لمعهد التمويل الدولي أظهر هذا الشهر أن الديون العالمية زادت بنحو 7.5 تريليون دولار بالربع الأول من هذا العام لتصل إلى مستوى مرتفع غير مسبوق تجاوز 324 تريليون دولار.
ووفق تقريره بعنوان "مرصد الدين العالمي” فإن الصين وفرنسا وألمانيا كانت أكبر المساهمين في زيادة الدين العالمي، بينما انخفضت مستويات الدين في كندا والإمارات وتركيا.
وذكر المعهد "ساهم الانخفاض الحاد لقيمة الدولار أمام عملات الشركاء التجاريين الرئيسيين في زيادة قيمة الديون بالدولار، لكن الارتفاع بالربع الأول كان أكثر من أربعة أمثال متوسط الزيادة الفصلية البالغة 1.7 تريليون دولار التي رصدت منذ نهاية 2022.”
وارتفع إجمالي ديون الأسواق الناشئة بأكثر من 3.5 تريليون دولار بين يناير ومارس إلى مستوى غير مسبوق تجاوز 106 تريليونات دولار.
واستحوذت الصين وحدها على أكثر من تريليوني دولار من هذا الارتفاع. وبلغت نسبة الدين الحكومي إلى الناتج المحلي الإجمالي 93 في المئة ومن المتوقع أن تبلغ 100 في المئة قبل نهاية 2025.
وسجلت قيمة ديون الأسواق الناشئة بخلاف الصين أيضا رقما غير مسبوق، إذ شهدت البرازيل والهند وبولندا أكبر زيادات في قيمة ديونها بالدولار.
غير أن بيانات المعهد أظهرت أن نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في الأسواق الناشئة بخلاف الصين انخفضت إلى أقل من 180 في المئة، أي أقل بنحو 15 نقطة مئوية من أعلى مستوياته على الإطلاق.
كما تواجه الأسواق الناشئة رقما قياسيا يبلغ 7 تريليونات دولار لعمليات استرداد السندات والقروض في الفترة المتبقية من 2025، وبلغ الرقم للاقتصادات المتقدمة نحو 19 تريليون دولار.
ويؤدي هذا الاقتراض، إلى جانب ديون قياسية تبلغ 8.2 تريليون دولار تحتاج الأسواق الناشئة إلى تجديدها هذا العام، منها 10 في المئة بالعملة الأجنبية، إلى إرهاق قدرات البلدان على مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية التي تلوح في الأفق.
وتواجه اقتصادات نامية، مثل كينيا ورومانيا صعوبة في تعزيز العائدات بسبب التذمر من زيادات الضرائب في حالة كينيا والانتخابات المقبلة في حالة رومانيا.
ويرى خبراء أن الحل لمشكلات الديون في البلدان النامية يتمثل في تخفيف أعبائها، بحيث يمكن إعادة توجيه مدفوعات خدمة القروض نحو الإنفاق على الخدمات الاجتماعية الأساسية، مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية.
ولكن تبين في ضوء تجارب سابقة أن هذا الأسلوب ليس مضمونا، فعندما أعفيت أفقر البلدان من ديونها ضمن مبادرة أطلقها صندوق النقد والبنك الدوليين في 1996، لم تتبعها إصلاحات اقتصادية كافية. ومرة أخرى، تعاني العديد منها مديونية عالية للغاية.