القلعة نيوز-
يطلّ علينا هذا العام حزيناً من غير الشاعر الكبير سليمان المشيني، الذي كان كلّما مرّ عامٌ يتحفنا بقصيدة عصماء عن حبّ الأردن، أو قطعة نثريّة بليغة عن «عيد الميلاد» يترجمها بإحساسه العالي لكبار الأدباء العالميين، بعد أن يلبسها لبوساً من الأدب والثقافة العالية والمشهد الرومانسي واللغة الشفيفة الرائقة، أو يعيد التذكير بما كتبه للمسرح في سبعينيات القرن الماضي، كما في «أميرة جرش والبطل» التي صاغ فيها أجود معاني البطولة والتضحية وفداء الأوطان،.. أو يعيدنا إلى الأهزوجة الأشهر التي كتب كلماتها وأهداها لوطنه الأردن الذي وُلد فيه في عشرينيات القرن الماضي بعد تأسيس إمارة شرقي الأردن بقليل، فشهد على تطوّره وظلّ ضميراً مخلصاً يدفع عنه العاديات، بعد أن ظلّت كلمات الملك عبدالله الأول ابن الحسين ترنّ في عقله ووجدانه بعد أن ألقى أمامه قصيدةً عام 1949 وهو ما يزال طالباً: «أنت شاعرنا يا مشيني، والشعر موهبة وثقافة فلا تقعد عن ممارسته وطلبه وإبداعه «.
وإذ نستعيد بداية هذا العام الحزين الذكرى الأولى لرحيل الشاعر سليمان المشيني المولود في السلط، ونقلّب في دفتر الذاكرة عطاءه الإعلاميّ الكبير في برامج الإذاعة الأردنية، بحنجرته الذهبيّة الواثقة وحسّه الإنسانيّ العالي، فإننا نستذكره مديراً لهذه الإذاعة التي حرص عليها رئيس الوزراء الراحل الشهيد وصفي التل، وطارق مصاروة، وصلاح أبو زيد، وحيدر محمود، وكلّ أولئك الرعيل الذين أعطوا لبلدهم وقدموا له الكثير، فكان شعرهم ترجماناً لإحساسهم الصادق ونفوسهم الجيّاشة التي شهدت كلّ التحديات التي واجهت الأردن وتجاوزها بحمد الله وبهمّة القيادة الهاشميّة المظفرة، لنظلّ ندين للشاعر سليمان المشيني أبي إبراهيم بكلّ المعاني السامية التي رسّخها في حفاظه على اللغة العربيّة، التي نحتفل هذه الأيام بيومها العالمي، وإخلاصه للقصيدة العمودية، واحترامه للتجديد المنضبط في الشعر، فقد كان ممن كتب النشيد للأردن وفلسطين والجزائر وبقية الدول العربية في النهوض والتحرر من ربقة الاستعمار.
وما يزال بيته القديم في السلط شامخاً بشموخ هذا الشاعر، وهو عبارة عن سرايا قديمة، يمكن أن تكون متحفاً سياحيّاً كبيراً لشاعر كبير، أعطى الأردنّ كلّ شعره وكان من رواده الأدباء الذين شهدوا مجده وتطوره، خصوصاً وأنّ المشيني ولد في أواخر عشرينيات القرن الماضي بعد تأسيس الإمارة بقليل. كما يمكن أن يُسمى معلم وطني باسمه أو على الأقل استوديو في الإذاعة الأردنية التي تدرج فيها وصدحت كلمات «فدوى لعيونك يا أردن» منها إلى الأردن والعرب والعالم،.. هذه أمنيات أدباء يعترفون بعطاء المشيني، ذلك الشاعر الكبير.
يقول الشاعر الكبير أديب ناصر في رثاء سليمان المشيني:
راسِخٌ في جِبالِها لا يَغيبُ
وهوَ الآن في الرَّوابي يَجوبُ
صهوةٌ شِعْرُهُ كَما الرَّعْد يَعْلو
ثُمَّ يَدْنو كَمُزْنَةٍ وَيَذوبُ
وَتَذوق الشِّفاهُ مِن أخْضَرِ الأرضِ
وتحيا في جَنّتينِ القُلوبُ
فَسُلَيْمانُ في عُلاها طُيوبُ
وَسُلَيْمانُ في ثَراها خَصيبُ
وَسُلَيْمانُ، يا سُلَيْمانُ، دربٌ
أَيْنَ مِنْهُ وقد وصلْتَ الدُّروبُ
أَنْتَ عَلَّيْتَ مِنْ جِباهٍ جِبالاً
حينَ غطّى على الجِباهِ الشُّحوبُ
أَنْتَ فَجَّرْتَ في العُيونِ عُيوناً
كادَ يقضي على سَناها النُّضوبُ
يا سُلَيْمانُ يا حبيبَ بِلادٍ
ليسَ ينسى شمالُها والجنوبُ
(فِدْوَه) قد قُلْتَها لِعَيْنَيْكَ أُرْدُنُّ ..
حَجيجٌ وَرَكْعَةٌ وَوُثوبُ
(فِدْوَه) قد قُلْتَها لِكُلِّ تُرابٍ
فًهُنا مَهْدُنا التُّرابُ الخَضيْبُ
وَهُنا في الجِبالِ تَبْقى سُلَيْمانُ
عِناقاً فَلا يَغيبُ الحَبيبُ.
في حين كان المشيني يغرّد في حياته أروع التغريد وأعذبه للأردن، كما في قصيدة «أنا شاعر الأردن» التي يقول فيها:
أنا شاعرُ الأردنِّ مَنْ غنّى لَهُ
أَسمى ملاحِمِهِ على قيثارِهِ
غنّيتُ للأردنِّ عذْبَ قصائدي
زيّنتُها بالسِّحْرِ مِنْ نُوّارِهِ
وفخرتُ في صحرائهِ ورمالهِ
وَشَدَوْتُ في أَرْباضِهِ وقِفارهِ
مجدُ العروبةِ صيغَ في أُرْدُنِّنا
بمعارك اليرموكِ في ذي قارِهِ
إنْ ذُلّ ذلّ الضادُ في أقطارِهِ
وَهَوَتْ مَعالمُ عِزِّهِ وفَخَارِهِ
سأظلُّ أشدو باسمهِ المحبوب ما
فتنت زهور الروضِ في أيارِهِ
نتاج غزير في حب الوطن
ومثلما تستذكره عائلته الكبيرة في الأردن وفلسطين والعالم العربي، يستذكره أبناؤه الدكتور إبراهيم وليلى وفريال وفاتنة ونادرة، مستذكرين شعره في أختهم الشهيدة الصيدلانية دينا، وهم يردون له جزءاً من الوفاء له بالتذكير به وبما غنى للوطن، إذ يستعيدون مثل كل الأبناء الذين نشأوا في حضن والد شاعر كان يكتب لهم أناشيدهم المدرسية، بقولهم: لقد فَتّحْنا أعيُنَنا على أناشيد، وأغاني واسكيتشات ومسلسلات وبرامج والدِنا الغالي ولا سيّما ركن الجيش والقوات المسلحة .. التي كانت تُذاع على أثير إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية التي أمضى فيها ثلاثينَ عاماً متدرِّجاً في المناصب حتى أصبحَ مديرها العام .. وقد اشترك في تلحينِ وأَداءِ قصائِدِه كبارُ الملحّنين والمطربين من الأردن ومختلف أرجاءِ الوطن العربي الكبير، كذلك كنّا نتابع ما كانت تنشره الصُّحُف من أشعاره ومقالاته التوجيهية ذات النقد البنّاء والتي كان يغلب عليها حب الأردن والتّغنّي بأمجاده وأبطاله وكيفية الارتقاء به ليكونَ في طليعة البلدان الرّاقية المتطوِّرة .. مثلَما كنا نقرأ ما كتبَ كبار الأدباء والشعراء والمؤرخين والنُّقّاد المرموقين عن شعره وأدبه من تحليل وثناء.
وقد صَدَر له أحد عَشَر جزءاً من سلسلة دواوين شعر بعنوان « صَبا من الأردن « كما صدر له المجلّد الأول من « ديوان الأردن « وله مسرحيتان وثلاث روايات ونافذة على الأدب العالمي وموعد في القدس ومع العبقريات وغيرها .. وله أيضاً مخطوطاتٌ عديدة .. وهو من مؤسسي اتّحاد الكُتّاب والأدباء الأردنيين وصحيفة الرأي الأردنية وغيرها وكان حضوره شبهَ دائم في معظم الفعاليات الوطنية والثقافية والأدبية.
شاعر الأردن والعروبة
وهو ليس فقط شاعر الأردن الوفيّ .. وإنما أيضاً شاعرُ العروبة والوَحدة العربية والوئام بين الأديان .. وله ديوانٌ كامل عن فلسطين بعنوان « بطاقة حُب إلى فلسطين الخالدة « وكتب أول نشيد عن القدس عام 1948 أُذيعَ من محطّة «هنا القدس» بناءً على طلب جلالة المغفور له بإذن الله الملك عبد الله الأول.
فالقضية التي كانت دوماً تَشغَلُهُ هي الوَحدة العربية لأنه قوميّ الاتّجاه وتأثر كثيراً بالثورة العربية الكبرى وبتضحية الحسين بن علي .. فكان يقول أنْ لا خلاص للعرب من مآسيهم إلا بالوَحدة .. مثلما كان يحزّ في نفسه أننا لم نعد نقرأ أو نسمع في إعلامِنا العربي كلمة أو دعوة إلى هذه الوحدة ..
وقد كرّمتهُ القيادة الهاشمية الحكيمة بعددٍ من الأوسمة الملكية الرفيعة كان آخرها «وسام الحسين للعطاء المُمَيَّز من الدرجة الأولى» والذي أنعم به عليه جلالة الملك المفدّى عبد الله الثاني بن الحسين حفظه الله ورعاه.
والشِّعرْ كان في دَمِهِ وحياتِهْ ويقول في هذا الصدد، إنَّ للشعر الرّفيع أركان .. في طليعتها الموسيقى، والبَيان، والأَلفاظُ البديعةْ، والمعاني السّاميةْ والخيالْ وروعةُ التّركيبِ وَبِناؤهْ .. فتورَدُ عليكَ من النَّفحات السّماويةْ التي هي انتقالٌ من الدُّنى الأرضيّة .. لأنّ في روح الشّاعر الحقيقي إِلْهاماً نورانيّاً يبعث الرّوحَ في العَدَمْ .
محبته للسلط
فالأردن في نظرِ المشيني هو روحُهُ .. وحِسُّهُ .. وعقلُهُ .. وخيالهُ .. وكيانُه .. ومصدرُ وَحْيِه وإلهامِه .. وموضعُ فَخرِه واعتزازِه .. وهو كتابُ الآباءِ المفتوح له.. وصُحُفُ الأجدادِ المنشورة أمامَه.
ولقد أحَبَّ وطنَهُ الأردنْ حبّاً بلغ حدَّ العِشق والتقديس، ولذلك .. فقد علّمنا حبَّ الوطن والعلمَ والعمل من أجله والتواضع والتّحلي بالضمير الحيّ .. وبذل كلّ نفيسٍ وغالٍ في سبيلِ رِفعتِه وسؤددِه.. وقد كان موضعَ محبةِ وتقديرِ وإجلالِ كل مَن عرفه..
وقد تميّز شِعرُهُ بالأسلوبِ العذبِ السَّلِس الجميل، وإشراقةِ الدّيباجة والسَّبْكِ القويّ والخيالِ البعيد.
أما السّلْطُ الشمّاء مَسْقط رأسِه وعِشقه .. فقد تغنّى بها، من خلال الكثيرٍ من عيونِ القصائِد وكُرِّمَ فيها عدة مرّات، فها نَحْنُ نسمَعُهُ يَقُولُ فيها:
هِيَ السّلطُ دارُ الخلودِ المُقيمِ
وحقُّ الوَفا يَقضي إجلالَها
فما أنجَبَتْ غَيْرَ شُمِّ الأُنوفِ
كما تُنجِبُ الأُسْدُ أشبالَها
وواديها للفنِّ فِردَوْسُهُ
وللنَّفْسِ يبعَثُ آمالَها
ولو لم تكوني أَعَزَّ حِمىً
لَزُلْزِلَتِ الأرضُ زِلْزالَها
بين التجديد والوفاء للشعر
أما على الصّعيد الأُسَريّ والشّخصيّ، فقد تميّز المشيني بحبه العميق لعائلتِه، وبوقارِه وهدوئِه وأدبِ حديثِه .. وهو المؤمنُ الصّبور على عاديات الزمن عندما استُشهِدَتْ فلذةُ كَبِدِه الصيدلانية دينا.. ونحن هنا، نستذكر مُحَيّاهُ الجميل ورحابةَ صدره ونقاءَ روحِهِ وسريرَتِهْ .. وكرمَ نفسِه وخُلُقَه الرفيع وتواضعَه وشخصيّتَهُ القوية المحبّبة والحنونة في الوقت نفسه..
وقد كان المشيني محظوظاً برفيقةَ دربِه ومُلهِمَته «دمية» كريمة الأديب والمؤرّخ الفلسطيني العربي الكبير «عيسى روفا السفري».. فأحسنا تربيَة أبنائهما وغرسا فيهم الأخلاق الحميدة، مثلما عَمِلا على تعليمِهم في أفضلِ المدارس والجامعات وبِفَضْلِهِما كانوا جميعاٌ من المتفوّقين.
إذن .. كان المشيني علماً من أعلام الأردنِّ الشرفاء المخلصين.. وفارسَ الكلمة والمسيرة المعطاءة .. الصادقَ الصدوق المخلص الذي امتازَ بغزارة إنتاجه، وقصائده تُدَرَّس في مدارسِ أردنِّنا الحبيب.. وهو صاحب الحروف الماسية التي حُفِرت في قلوبنا قبل ذاكرتنا .. وإذ يغادرُنا جسدُهُ الطّهور .. فإنَّ ذكراهُ العطرةْ وبصماتِهِ المشرِّفة خالدةٌ خلود الأردن العزيز..
ولِد سليمان إبراهيم المشيني في مدينة السلط، وتلقّى تعليمه الابتدائي ثم الثانوي في مسقط رأسه.
التحق بالعمل الإذاعي في الإذاعة الأردنية عام 1957 وتدرّج في المناصب إلى أن أصبح مديراً عاماً لها عام 1985.
وبعد إحالته إلى التّقاعد، انضمّ إلى اتحاد الكتّاب والأدباء الأردنيين عضواً في الهيئة الإدارية لدورات عديدة. وقد أسهم في إغناء نشاطات الاتحاد الثقافية الأردنية والعربية.
وقد كتب عنه عدد من كبار الأدباء والشعراء وتناولوا أدبه وشعره بالتحليل. وكُتِبت عنه دراسة موسّعة في «قاموس أعلام الفكر والأدب في الأردن» للأديب المؤرّخ «محمد أبو صوفة». وألف فيه الدكتور أسامة شهاب كتاب»سليمان المشيني أديباً وإنسانا»، وكان سليمان المشيني شاعراً يعرف الجميع عشقه الوطن وتعلقه به، وتغنيه بجماله وقدسيته، وتمسكه بالعروبة وارتباطه بفلسطين، فلم يترك مدينة أردنية إلا وكتب فيها شعراً ولم ينس الشهيد والعامل والفلاح والطالب والراعي والمرأة الأردنية والطفل، وله روايات مثل رواية «سبيل الخلاص»، و»زاهي وعنود»، و»الشارع المعبّد بالذهب»، وقد كتب المقامات مثل: «مقامات لسان حال الزمان»، والمقامة المانشيتية»، و»المقامة العبدونية»، والمقامة الخبزية»، وله مشروع دراسة عن الموشحات الأندلسية، وقد اشتهر بالنثر، وله كتاب»مع العبقريات».
للشاعر سليمان المشيني رأي في الشعر فهو يقول: «في البدء كان الكلمة (إنجيل يوحنا المعمدان) حيث الكلمة هنا تعني كلمة الله المسيح عليه السلام ... وفي البدء كان الشعر، وللشعر العربي الخالد مقوّمات في طليعتها التمكّن من اللغة، والبلاغة والسيطرة على أصول الشعر وقوافيه، والموهبة الشعرية، لأن هذا الفن الرفيع ليس علماً ولا حرفة وإنما هو شعور وإحساس وفيض عاطفة ووجدان خيال، واللغة العربية بأصولها وقواعدها هي قوام الشعر الذي يستمد منه الشاعر قضيته تعبيراً وتصويراً وبلاغة وبيان، لأن الشاعر محتاج إلى حسن الاختيار لألفاظه وكلماته ليحسن التعبير عن مشاعره ووجدانه وخلجات نفسه دونما إبهام. إن النغم والإيقاع هما ميّزتا شعرنا العربي، كما أن الصور الشعرية والرؤى الفكرية تضيع في دروب من التعبير ملتوية. وإذا قيل هذا تجديد فردّنا أن التجديد في المعاني من خلال الالتزام بالوزن والقافية. فما الذي يبقى من أصول الشعر العربي وما يميزه إذن عن النثر عند فقدانهما».
قام الشاعر المشّيني بإعداد وتقديم برنامج «جيشنا العربي» على مدى ثلاثين عاماً وكان يُبَث هذا البرنامج على أثير إذاعة المملكة الأردنية الهاشميّة.
في رثاء ابنته دينا
وللمشيني قصيدة عظيمة كتبها في رثاء ابنته الشهيدة الصيدلانية «دينا»، وفيها يقول:
مَن قال ودّعتِ الدُّنى ... ما زلتِ يا دينا هنا
تَحْيَيْنَ ملءَ جوانحي ... وتَخِذتِ قلبي مَسْكِنا
فأراكِ إن هلّ الضيا ... عن بدءِ يومٍ معلِنا
تتناولين القهوة السادا بشرفة بيتنا
نبراتُ صوتك صنو موسيقى تُهَدْهِدُ سمعنا
وإذا مرَرْتُ بروضةٍ غنّا لمحتُكِ سوسنا
أنّى أسيرُ أرى مُحيّاكِ المتوّج بالسّنا
يا كنزنا، يا حبّ أردنّنا العزيز وحبّنا
ما كان من قبل الشّذى ... دمهُ يُراقُ بحوْضِنا
مَن قال غادرتِ الحمى ... أتغيبُ عنّا شمسنا
مَن قال هذا واهمٌ ... ما زلتِ نجمةَ أُفْقنا
كَمْ قد ملكتِ من المحاسن يا قلادةَ جيدنا
خُلُقٌ رفيعٌ كامل ... والعقل بالفكر اغتنى
والمبدأ السامي لكِ الحادي وكان الدّيْدَنا
دينا فَدَيْتُكِ لم أكُنْ أدري المصيرَ المُحْزِنا
لَقَطَعْتُ أيديَ المجرم الجاني بِعَزْمٍ ما وَنى
لكنّه أمر العليّ ... والله يبلو المؤمنا
فاستبشري في جنّةٍ ... لا حزن فيها أو عَنَا
أنتِ الشهيدةُ لا مِرا ... روّى نجيعُكِ أرضَنا
كنتِ النّقية كالنّدى ... ما كفّها ذنباً جنى
يا زهرة الزهرات قد أدمى اغتيالكِ أعيُنا
في ذمّة الأردن مَنْ طابت بأصلِ معدِنا
كم قد رثيتُ من الجهابذةِ الأُلى من صَحْبِنا
كان القريضُ يُطيعني ... ويجيء سهلاً هيّنا
لكنّه أمسى العصيّ ولم يعُدْ لي مُذْعِنا
يا موتُ قاسٍ أنتَ ... لا تختار إلاّ الأحسَنا
قد غِلْتَ بابنتنا المميَّزة الأماني والمُنى
شُلَّت يدُ الجاني فقد أبكى المُصابُ الأُردُنا
مَن يصرع الوردً الشَّذيّ ... كان الأخسَّ الأجبنا
أردنّ يا طودَ العدالةِ سيفُ عدْلكَ ما انثنى
حِصنُ الشهامة والمروءةِ للنّزيل المأمنا
إنّا نُباهي دائماً ... كلّ البلادِ بأمْنِنا
ما كنتَ يوماً دار إجرامٍ وشرٍّ أو خَنا
فاسحَقْ بحُكْمكَ مجرماً ... فظّاً لئيماً أرعنا
كي تبقى للحقّ الصُّراح وللسلامة موطنا
يا موطني هذي فتاتُكَ قطعةٌ من نفسنا
فاجعل جفونك للحبيبةِ والبريئةِ مَدْفَنا
واعْقِدْ من الأزهار إكليلاً بهيّاً مُتقَنا
ليكون مثواها المطهَّر بالزّهور مزَيّنا
وليشْدُ طيرُكَ في الرُّبى ... لحنَ الوداع مُؤبِّنا
دينا الفريدةُ والعزيرةُ والأثيرةُ عندَنا
سيظلُّ ذكْرُكِ خالداً ... أرِجاً بآياتِ الثَّنا
نصغي لصوتكِ كلّما ... غنّى الهُزارُ بروْضنا
وفي أرشيف المشيني قصيدة أهداها الشاعر نَجيب لَحّام للمشيني وزوجته «دُمْيَه» كريمة الأديب والمؤرِّخ الفلسطيني الكبير عيسى روفا السِّفْري بمناسبة إكليلهما «عقد قرانهما» حيث دُعي الشاعر لحّام لحضور حفل الزّفاف عام 1950، فقال:
رآها فَمالَ القلبُ والقلبُ جاذِبٌ
زَميلاً لَهُ ناجاهُ بالرّوحِ والفِكْرِ
وَوُزِّنَتِ الأَخْلاقُ حينَ تَقابَلَتْ
وَلَمّا تَساوَتْ أُبْدِلَ السِّرُّ بِالجَهْرِ
وَسادَ رِضى الأَهْلِيْن عن كَسْبِ مَغْنَمٍ
يَعِزُّ عليهِمْ كَسْبُهُ طِيْلَةَ الدَّهْرِ
وكانَ قِرانٌ كَلَّلَ الشَّرْعُ قُدْسَهُ
وَزَيَّنَهُ صَوْنُ العَروسَيْنِ لِلطُّهْرِ
وَفازَ سُلَيْمانُ بِدُمْيَة عَروسَةً
وَفازَتْ هِيَ الأُخرى بِمَطْلَبِها العَصْريْ
قالوا في المشيني
قال فيه وزير الثقافة حين تكريمه: إننا اليوم بحاجة ماسة إلى شعراء الأردن الذين يحملون رسالة الشعر الجاد الذي يعظّم المنجز الوطني، ويحافظ على اللحمة الوطنية والنسيج المجتمعي، ويوحد الناس حول خطاب الدولة وأولوياتها في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخه.
أما الشاعر والإعلامي هاشم القضاة فأكد أهمية ما قدمه الشاعر المشيني والذي يعتبره الكوكب السيار الذي عرفته السلط نوراً متقداً وعزماً قوياً ووفاء متجدداً وولاء وطنياً، فقد اعتبر المشيني رابع جبال السلط وخامس عيونها، حيث نظم الشعر العمودي وظل وفيا له وثابتا عليه، مع أنّه كان يستطيع التجديد، إلا أنّه بقي مدافعاً عن الموروث.
ويؤكد الأب رفعت بدر قيم التآخي والسلام والعدل والجمال والعيش المشترك في أدب الراحل المشيني، وإلى ما كان يكتنز شعر الراحل من روح وطنية محبة للأردن، ورح إنسانية تواقة للخير، وروح عربية تسعى لوحدة الأمة، مؤكداً أهمية استحضار الراحل في مناهجنا من خلال تقديم شعره كوثائق وطنية تتميز بتركيزها على قيم التلاقي والحوار.
ويقول الكاتب الأديب حنا سلامة: ماذا عسايَ أقول وقد أُرْتِجَ عليَّ الكلامُ وحزَّ في نفسي الألم؟ أيها الموتُ، إعِتق مَن تجاسرت على مَن لم يعُاند أو يقاوم قبضة الأزل! أيها الموتُ، أرْخِ يَدَك عن قمر شعرائِنا وغُرَّة أدبائِنا. أوَ يَسُرُّك يا موتُ أنْ سَلبتَ مَن أنطق الحناجر وضرب على أوتار النفوس، وبه ومَعَه دَفِئت قلوبٌ واستنارت عقول!
لقد تخطّف الموت من شدَّ أوتار القلوب على قيثارة إلهامه فحلَّق بها إلى أسمى ذُرى، أيها الموت لقد تخطَّفت مَن كان سيفه القلم، وترسه الكتاب، وحَنجرته الذهبية صوت الأردن الصافي الداوي بالحق في مراحل زمنية مفصلية كان يمر الوطن فيها بتحديات قاسية قُدِّرَت عليه وتجاوزها بحكمة قيادة هاشمية شجاعة».
وقال المؤرخ الدكتور جورج طريف: « يعد الاستاذ سليمان المشيني (أبو ابراهيم ) رحمه الله أحد الرموز الأدبية الأردنية الذين كانوا يشكلون جيل الرواد الأوائل في مجالات الشعر والأدب والكتابة المسرحية وكتابة القصة والرواية والاعلام، عرفته عبر أثير إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية كغيري من المستمعين الذين عشقوا صوت الأردن عندما كانت الإذاعة الأردنية الوسيلة الإعلامية الوحيدة التي تبث الأخبار والبرامج على الساحة الأردنية في عصرها الذهبي من خلا ل ما كتب ونشر وذاع قبل أن أعرفه شخصيا بعد أن التحقت بالعمل في الإذاعة الأردنية عام 1979م.
ويتساءل الكاتب أيوب أبو ديّة: « سليمان المشيني، هذا العاشق الملهم يستحق أن يطلق على اسمه مبنى ثقافي في مسقط رأسه السلط، ولا أعتقد أن مجلس بلدية السلط الشهم سيتوانى عن ذلك، كما يستحق أن يطلق على اسمه في عمّان منتدى ثقافي، ينبغي أن تُجمع دواوينه، وأن تُطلق جائزة باسمه».
وقال وزير الثقافة الأسبق الدكتور صبري اربيحات: في تلك الايام كانت القصائد التي صاغها سليمان المشيني أحد أهم أركان البناء المعنوي للجنود والطلاب والأمهات والحصادين فقد كنا نردد كلمات «فدوى لعيونك يا أردن.. ما نهاب الموت حنا.. يا وطن غالي علينا.. ما نطيق البعد عنا» بحب وزهو لا مثيل لهما. هذه القصيدة التي أضفت عليها بحة الصوت وإيماءات الفنانة الجميلة سميرة توفيق الكثير من الحماس جعلتنا نتوحد مع اللحن والكلمات أيما توحد ونهيم ونحن نردد لحنها دون تحضير وبلا مناسبة».
ويقول وزير الإعلام الأسبق د. سمير مطاوع: «كان أول لقاء جمعني بشاعرنا الراحل سليمان المشّيني قبل ستين عاما.. وبالتحديد في اليوم الأول لتعييني مذيعاً في إذاعة عمّان الصغيرة في جبل الحسين في اليوم الأول من الشهر الأول عام 1958. ذكرياتنا المشتركة كثيرة، إيجازها لا يفي راحلنا الكبير حقّه من المحبة والتقدير، كنت فتى صغيراً تخرّجت من المدرسة إلى الإذاعة، وكان أبو ابراهيم نجماً تملأ تعليقاته السياسية التي تخصص بها سماء الأردن والدول المجاورة .. وكان شديد العشق للهاشميين وشديد الافتخار بتراثه العروبي الذي آلَ إليه من مبادىء الثورة العربية الكبرى التي حرّرت العرب. وحين تولّى الشهيد وصفي التل موقعه كمدير عام للإذاعة، عهد إلى شاعرنا الكبير سليمان مسؤولية الإشراف على جهود إحياء التراث الغنائي الأردني بإعادة صياغة وكتابة الشعر الريفي والبدوي لتُلَحَّن تلك الأشعار على نمط الأغاني الفولكلورية الأردنية وتُقَدَّم كأغان أردنية أبدع فيها بما لا يذكره كثيرون في هذه الأيام.
ويقول الكاتب د.جلال فاخوري: كان المشيني نموذجاً يحتذى في الإنسانية والثقة والمقدرة. وكان إنساناً جسد الإنسانية بكل معانيها.
ومما كتبه الشاعر نايف أبو عبيد الذي غادرنا أواخر هذا العام الشاعر ، في رثاء الشاعر المشيني:
جئتُ أرثيكَ يا كريمَ الخِصالِ
يا ذُرى السّلط يا شُموخَ الجِبالِ
جئتُ أرثيكَ يا صَبا مِن بلادي
بِقَوافٍ تَعَمَّدَتْ بالخَيالِ
يا سُلَيْمانُ كلُّ مَنْ عاشَ يمضي
فَلَكَ المَجدُ يا أَبِيَّ الرِّجالِ
خالِدٌ أنتَ مثل شيخي المَعَرّي
بِقَوافٍ لها امتداد الليالي
فِدوى عَيْنَيْكَ سوفَ تبقى طويلاً
في شِفاهِ الشّبابِ قبلَ الرّجالِ
فِدوى عَيْنَيْكَ سوفَ تبقى طويلاً
في شِفاهِ الشّبابِ لحن المعالي».