الرّوايةُ الأردنيّةُ المظلومة (أَعْشَقُـنِي) نموذجاً
القلعة نيوز - يونس شعبان الفنادي/ ليبيا
لا أزعمُ أني طالعتُ عدداً كبيراً من الروايات الأردنية. فكل ما قرأته هو رواية (أنثى افتراضية) للدكتور فادي المواج الخضير الرائعة والتي كتبتُ عنها مقالة مطولة اقتبس جلَّها الناقد الأردني الدكتور فوزي الخطبا ونشرها في كتابه القيّم (الفضاء الأزرق في الرواية العربية)، وكذلك روايات الأستاذة آسيا عبدالهادي (سعدية) و(دولة الكلاب العظمى) و(غرب المحيط) و(ذكريات وأوهام) وهذه الكاتبة القديرة الرائعة تستحق قراءة منفصلة ومتفردة، وذلك لتميز أفكارها ومخيلتها الخصية، وتقنيتها الفنية في الوصف والسرد والكتابة من خلال قدرتها على فتح شبابيك متوازية متعددة داخل الفضاء الروائي الواحد، والإمساك بكل دقة بحبكة النص وموضوعه الأساسي. وإنني أمل أن تتاح لي فرصة الكتابة عنها وتناول أسلوبها السردي الجميل الذي تتناغم فيه المفردة اللغوية بين الفصحى الصارمة والعامية البسيطة، فتتهادى الفكرة والصورة التعبيرية بكل أريحية لذهن المتلقي وتتلبسه بكل إتقان.
أما رواية (أعشقني) للروائية الأردنية الدكتورة سناء شعلان، والتي أهدانيها صديقي الدكتور عبدالله مليطان فهي ليست مجرد سرد لغوي يستمد من شاعرية المفردة ركائز جاذبيته القوية فحسب، بل هي إجمالاً عصفٌ ذهني للفكر الإنساني وهو ينسج تفاصيل الحكاية بكل أناقة وعذوبة تتجاوز توقعات القاريء، فتبهره وتآسر عقله، وتحرك وجدانه ومشاعره.
(أعشقني) عزفٌ موسيقي خلاّب يبهج القلب ويشرع أفكار العقول لطوفان من الأسئلة الفلسفية العميقة التي تهز وجدان القاريء، وتلفت انتباهه للعديد من القضايا، والتي ربما غفل عنها خلال مشوار الحياة المليئة بالتعب والإرهاق والنسيان، فجاءت أسئلة الرواية (أعشقني) لتنفض عنها غبار الجهل والتناسي، وتطلق سراحها من سجن الدفاتر والأوراق المصبوغة بالحبر، إلى فضاءات إنسانية شاسعة وأرحب وزاخرة بالتأمل والتدبر والتفكر.
إن ثنائية الذكر والأنثى وآلية الحمل البيولوجي تظل سمة في حيواتنا الطبيعية العادية، ولكن الكاتبة الدكتورة سناء شعلان أضفت عليها بعداً أخر حين بدّلت هذه الآلية بخيالها العلمي الافتراضي، وقادتنا طوال دروب وحوارات الرواية الممتعة عبر تغييرات فسيولوجية تبادلية، إلى محاولة تصديع جدار أفكارنا التقليدية المتصلبة طوال عشرة أشهر، وهي الزمن الافتراضي الجديد المحدد لفترة الحمل والإنجاب، كما تصوره لنا الرواية في شخصية بطلها السارد الذي يصف لنا معاناة ومكابدات الذكر/ الرجل حين يكون .. حاملاً بجنين في أحشائه!
إن رواية (أعشقني) التي انتهيتُ مؤخراً من قراءتها جعلتني على يقين تام بأن الرواية الأردنية تعاني ظلماً كبيراً في الأوساط الأدبية العربية، وتجاهلاً من الصحافة الأدبية خارج الجغرافية الأردنية، لأن موضوعاتها الفكرية تتجاوز السائد السردي الطافح على المشهد الإبداعي العربي، وتقنياتها الفنية تتمرد على كل ما خطته كلاسيكية الكتابة في الروايات اللبنانية والمصرية الباهتة والخليجية الخاوية إلاّ من أغلفة براقة ونوعية ورق فاخر.
وإن كان زمن رواية (أعشقني) يرحلُ بنا بعيداً حين ينقلنا إلى عوالم مستقبلية، لا أظن أننا سنشهدها، وتحديداً سنة 3000م وهي سنة الفضاء الزمني للرواية، فإن خيالها العلمي يطوف بنا عبر بانوراما فكرية موغلة في الدهشة والإثارة، والتي يمكن تلخيصها في كلمة بطلة (أعشقني) التي تؤكد فيها: ”وحدهم أصحاب القلوب العاشقة من يدركون حقيقة وجود بُعد خامس ينتظم هذا الكون العملاق، أنا لستُ ضدّ أبعاد الطّول والعرض والارتفاع والزّمان، ولستُ معنية بتفكيك نظرية إينشتاين العملاقة التي يدركها، ويفهمها جيداً حتى أكثر الطلبة تواضعاً في الذّكاء والاجتهاد في أيّة مدرسة من مدارس هذا الكوكب الصّغير، ولكنّني أعلمُ علم اليقين والمؤمنون والعالمون والعارفون والدارون وورثة المتصوّفة والعشّاق المنقرضون منذ آلاف السّنين أنّ الحبّ هو البُعد الخامس الأهم في تشكيل معالم وجودنا، وحده الحبّ هو الكفيل بإحياء هذا الموات، وبعث الجمال في هذا الخراب الإلكتروني البشع، وحده القادر على خلق عالم جديد يعرف معنى نبض قلب، وفلسفة انعتاق لحظة، أنا كافرة بكلّ الأبعاد خلا هذا البعد الخامس الجميل”.
لن أقتبس المزيد من هذا العمل الروائي الأردني الممتع بفكرته المتخيلة، ولغته الرومانسية، وأسلوبه السردي الشيّق، فلقد تناولت الكاتبة الدكتورة سناء شعلان مواضيع كثيرة مثل الحبّ والجنس والقيم والأخلاق وهي تتصارع داخل الفكر والسلوك الإنساني بشكل مغاير لما طالعناه لدى غيرها، ولكنها في كل الأحوال وهو ما يبهجنا كثيراً تصر على اعتبار أنّ الحبَّ هو إكسير حياتنا وعلاجنا الأساسي من جميع العلل والأسقام .. وهذا يكفي لمعانقة بوحها الروائي الجميل بكل لهفة وشوق .. مع رفع القبعة اعتزازاً وتقديراً للمبدعة الأردنية النشمية الأصيلة.
(*) أديب وكاتب وإعلامي مستقل من ليبيا