عادة ما تقوم الثورة لتغيير الواقع الحالي الى مستقبل أفضل. فمثلاً الثورة الصناعية بكافة مراحلها غيرت من استخدام الإنسان للعلوم واستخدام الالة للتطوير وسرعة الإنجاز وكذلك ثورة الأنترنت والاتصالات الحديثة التي غيرت مفهوم التواصل ونقل المعلومة بشكل كلي وجذري. وبناءً عليه فإن الأثار المترتبة على جائحة كورونا ترقى لان تكون ثورة بالمعني الاصطلاحي للكلمة. فالكورونا هي قوة خارجية أجبرتنا على تغيير طريقة تفكيرنا وبالتالي طريقة عملنا. إن السؤال المهم الذي يطرح دائماً "ما هو مستقبل الوظائف؟". ولطالما شغل هذا السؤال الإداريين والأكاديميين ما قبل الكورونا ولكن الآن أصبح أكثر إلحاحاً. إن طريقة تفكيرنا في الوظائف وطريقة العمل ستكون مختلفة بعد الكورونا. ولعله لا يوحد إجابة محددة لهذا السؤال ولكن إذا ما حاولنا النظر الى ثلاث محددات في تعريف الوظيفة لعلها تصوراً وفهماً عن مستقبل وشكل الوظائف بعد الكورونا وهي: أولا الأشخاص: أي الموظفين أنفسهم فنحن ما زلنا في زمان نحتاج فيه الى الإنسان كي يقوم بوظيفته التي تدرب عليها. فقد نرى في المستقبل القريب تخلي الإنسان عن بعض الوظائف ومنحها لروبوتات أو برامج كمبيوترية لتحل محل الإنسان. ثانياً مكان العمل: إن مكان العمل في الأشهر الماضية أصبح حديث الكل وان مبدأ "العمل من المنزل" قد تأثر به معظم الناس. لكن عندما يزول الوباء وتعود الحياة هل سنعود للعمل من المكتب أو مقار الشركات أم أننا سنبقى نعمل من البيت أم سيكون هناك مكان ثالث للعمل منه؟ ثالثاً: الهدف من العمل الكثير منا ممتن جداّ لفكرة انه لن يصرف ساعات في المواصلات لكي يصل الى مكتبه او مكان عمله وتلك الساعات من الممكن أن تستغل في زيادة الإنتاجية. والسؤال هنا ما هو هدف المؤسسة التي تعمل بها وما هو هدف وظيفتك؟ إذا ما حاولت الإجابة على تلك المحددات الثلاثة فإنك حتماً ستحصل على جزء من الإجابة على تساؤل مستقبل الوظائف في العالم بعد الكورونا. إن الخلل الذي أحدثه وجود هذا الفيروس قد خلق فرصة كبيرة للتغيير نحو الأفضل. فعلى سبيل المثال يوجد بنك في بريطانيا قرر إرسال خمسون ألف موظف للعمل من بيوتهم أثناء فترة الحظر لمحاربة تفشي الوباء. ومثال أخر طازج وجديد هو أن شركة فيس بوك سوف تسمح للموظفين من الاستمرار من العمل من البيت حتى بعد رفع القيود ولكنها تقترح تخفيض في الرواتب. في الظروف الطبيعية تحتاج هذه التغييرات الى أشهر من الدراسات واللجان والتوصيات وستكون تدريجية جداً في حالة التطبيق. لكن في زمن الكورونا تبلورت الفكرة في أيام معدودة وبدون أية تجارب وذلك لأنها السبيل الوحيد للبقاء في ساحة المنافسة والعمل. حتى على مستوى المنظمات غير الربحية ومراكز تعليم القراَن او حتى بعض المساجد فقد استطاعت أن تتأقلم مع ظروف الحجر وتتابع عملها عن طريق الاونلاين لبث خدماتها التعليمية والخدمية ونقل التبرعات. والنتائج الأولية تشير الى نجاح نسبي للفكرة مع وجود فرصة كبيرة للتطوير. فبعض الفصول الدراسية المطروحة عن طريق الإنترنت سهلت لبعض الناس الالتحاق بها مما زاد من أعداد متلقي الخدمة ووسع دائرة الاستفادة وخفف من النفقات. ومن هنا فان جائحة كورونا تعتبر فرصة كبيرة للتغير نحو الأفضل. إذا ما تفحصت الوضع الحالي للعالم بأسره فإنك ستتيقن بأننا في خضم أكبر تجربة اجتماعية إنسانية تحدث في نفس الوقت في جميع أنحاء العالم وتحت نفس ظروف الحظر. هذا الحظر الذي الجأ معظم الناس للعمل من المنزل فمثلاً تخيل موظف بنك يعمل من على طاول المطبخ بعد أن وضع أمامه شاشتين، كيف لحياة عائلة هذا الموظف أن تعود الى طبيعتها؟ والان بعد الحديث عن العودة الى العمل هل ستبقى تعمل من المنزل أم المكتب أم هناك مكان ثالث من الممكن أن تعمل منه مثل المكتبات العامة أو مقاهي الأنترنت أو حتى ستار بكس؟ بحيث تكون هذه الأماكن قريبة من مكان السكن. إن من حسنات الجائحة أنها أجبرتنا على التعاون مع الأخرين باستخدام التكنولوجيا واعتقد أن العودة الى العمل لن تكون مثل ما تعودنا عليه وانه سيكون هناك قيوداً اجتماعية تفرضها هذه الجائحة حتى بعد زوالها. مما يدفع كثير من الشركات والمؤسسات التعليمية للتفكير في أساليب رقمية للتعاون والتواصل. على سبيل المثال الاجتماعات ستكون كلها رقمية باستخدام برامج مثل زووم أو سكايب. ولذلك يجب أن نعمل على أن نكون أذكياء ورشيقين في التعامل معطيات وأثار الجائحة. على سبيل المثال الشركات ستقوم بتبني بعض البرامج الكمبيوترية للتواصل وترتيب المهام بين الموظفين مثل برامج توزيع المهام ومتابعتها او برامج خاصة للتوقيع الإلكتروني تعمل على إتاحة الفرصة لتوقيع مصدق للوثائق التي تحتاج الى توقيع. كما يمكن أن نشهد استخدام مكثف للتكنولوجيا لمساعدتنا على العودة الى العمل فبعض الدول طبقت فعلياً بعض برامج التعقب للسيطرة منع احتمال تكوين بؤر وبائية مثل أستراليا وبريطانيا. هذه البرامج تسهل للحكومات من تعقب مسار الأفراد معرفة مخالطيهم باستخدام التكنولوجيا مما يمكنهم من فحص المخالطين في حالة تبين وجود إصابة بينهم. وكذلك من الممكن للشركات والمصانع الكبيرة جداً استخدام برامج تعقب داخلية بحيث يوضع جهاز تعقب صغير خلف بطاقة التعريف التي يحملها الموظف دائماً. والهدف منها وفي حالة وجود إصابة أن تعزل الأماكن التي تواجد فيها الشخص المصاب فقط ودون الحاجة لإغلاق كافة المنشأة. وبهذا يكون استخدام التكنولوجيا لخلق بيئة عمل أمنة. لا تنسى أنك إذا أردت المحافظة على وظيفتك في المستقبل القريب فعليك أن تكون ذا "فضول الكتروني" أي عندك الرغبة والقابلية لتعلم كل ما هو جديد عن التكنولوجيا ومصطلحاتها ويجب عليك أن تقوم به على أسرع وجه. فالمستقبل سيرفض أولئك الأشخاص الجاهلين رقمياً. أما للشركات فان عليها أن تعيد التفكير في إجابة للثلاث أسئلة التالية قبل قرار العودة للعمل: 1- لماذا يجب عليك أن تعيد الموظفين للعمل من المكتب؟ 2- أين ستكون بيئة العمل أكثر أمناً للموظفين؟ 3- متى يجب أن نجعل الموظف يعمل من البيت ومتى يجب أن يعمل من المكتب؟، هل إذا كان الموظف يعاني من سيلان في الأنف أن نعطيه إجازة مرضية أم هل من الممكن الطلب منه العمل من المنزل لذلك اليوم حتى لا يكون هناك احتمالية لنقل عدوى للأخرين. تذكروا دائما أن من رحم المحنة تولد المنحة فمن يدري لعله تكون هناك فوائد جمة لهذه الجائحة على الرغم من التعطل والدمار الكبير الذي نراه حالياً
. عمر الصمادي ادليد/استراليا