إن السعي
وراء المعرفة العلمية فيه طريق الى الجنة ، ومنافع دنيوية جما ، واكتشافٌ وفهم لمكنونات
العالم من حولنا ، فلا يتعذر الإنسان بكبر سنه ليصل الى كل هذا ، ولا يستحي أن
يطلب العلم والمعرفة لتقدم عمره ، قال صلى
الله عليه وسلم : " لا يستحي كبير السن أن يثني ركبتيه في حلق العلم مع الشباب جنباً
الى جنب " ، وجاء في صحيح البخاري أنه قال : " وتعلم أصحاب النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - في كبر سنهم " .
وفي قصص وأخبار الأمم السابقة والقرون
الماضية أحسن البيان وأجمعها للعبرة والعظة ، وما في تلك القصص من شحذٍ للهمم وحث
على العمل ، يحكى أن موسى بن عقبة وهو من صغار التابعين ومن أعلام المؤلفين في
السيرة النبوية والمغازي عمل بجمع ما هو صحيح وثقة من الاحاديث المنتخبة التي تحكي
حياة رسول الله وغزواته وهو في العقد السابع من عمره ، دفعه الى ذلك غيرته على دين
الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم حين وقعت حادثة في عصره رأى أنها قد تدخل الريب
والشك في نفوس البعض فتصدى لذلك رغم تقدمه في العمر .
ويذكر أن العالم أبو الريحان
البيروني الذي يعتبر من أعظم العقول التي عرفها التاريخ قال في حوار له مع أحد
تلاميذه " أودع الدنيا وأنا عالم بها أليس خيراً من أن أخليها وأنا جاهل بها ؟
! " فبرغم مما وصل اليه هذا العالم من مكانة وما أبدع به من مؤلفات في شتى
العلوم إلا أنه ظل مواظباً على طلب العلم رغم كهولته ، وسعى الى تعلم اللغة
الهندية المبهمة صعبة الادراك وهو في السبعين من عمره ليقوم بحركة من الترجمة
والنقل من الهندية للعربية والعكس .
ويروى أن
الامام الجليل العالم بالحديث والتفسير ابن الجوزي لمّا بلغ الثمانين من العمر بدأ
بتعلم القراءات وكان زميله ابنه يوسف ، فقرأ الأب والأبن على الشيخ ابن الباقلاني القرآن
الكريم برواياته العشر .
تلك نماذج
من عصور خلت ، أما إذا أردت أن تتبع الأثر في وقتنا الحاضر فانظر الى المسنة المصريةآمال
متولي صاحبة الثمانون عاماً التي استطاعت أن تحقق حلمها بإكمالها التعليم
الجامعي بعد انقطاعها عنه فترة طويلة من الزمن لتحصل على درجة الماجستير بامتياز متحديةً
ظروفها الصحية صامدةً في وجه المرض ، لتخرج من تلك المرحلة محنية الظهر مرفوعة
الرأس عازمةً على إتمام ما عقدت النية على فعله . ثم أنظر الى كثير من النماذج
المشرقة التي تثلج الصدور من كبار السن اللذين دأبوا وواظبوا على حفظ القرآن
الكريم رغم أميتهم وضعف نظرهم ووهن أجسامهم إلا أنهم أناروا قلوبهم بآيات القرآن
وكلماته .
كل ما تقدم ذكره يؤكد على أن عالي الهمة لا
يرضى بما دون القمة ، ولا يعوقه شيء عن مقصده ، ولا يثنيه ضعف عن بلوغ المعالي ، فليس
هناك عائق عن العلم سوى الموت ، وما دون ذلك هين .