القلعة نيوز:
سترحلين يا فيروز، أو
نرحل نحن، وعسى أن تصل إليك كلماتي في حياتك وقبل مماتي، فالفراق محتوم، والموت
قدر، ولكل بداية نهاية.
لكنّ ذكرك سيبقى طويلا
طويلا، فلطالما أسعدتِ قلوبا، وأبكيتِ عيونا، وفجّرتِ حنينا، وصوّرتِ أحلاما،
وأثرتِ شجونا، وبعثتِ آمالا، وضاعفتِ آلاما، ونكأتِ جروحا، وأوقدتِ غراما.....إلخ،
ثم مضيتِ أنتِ إلى عالمك السحري الغامض، وتركتِنا نهيم في كلماتك، ونتفكر في
معانيكِ، ونتخيل دنيا هادئة وديعة صادقة نقية سامية غير هذه الدنيا المُترعة
بالزيف والنفاق والضنى والمعاناة.
وفي خضمّ مرارة واقعنا،
نجد قلوبنا أحيانا تفيق من سكرة الألم وتباريح الجوى، وقسوة الإحباط، وفيض الأسى،
فتفرّ إلى هدأة صوتِك، وسحر كلماتِك، لعلنا نجد بعض سلوى أثيرة عزيزة المنال.....
ــ كم كنتِ وفية عندما
كتبتِ اسم حبيبك على الحور العتيق!! وكم كان هو عابثا لاهيا عندما كتب اسمك على
رمل الطريق!! بقي اسمه محفورا في ذاكرة الزمن، وداست الأقدام اسمك العظيم، ومحت
رسمك الوسيم.
ــ أنتِ فريدة عصرك، لا
ترضين بأقل من الحب الناضج الكامل الوفيّ الصادق، والموت عندك أهون من الخيانة:
" دقّتْ على صدري
وقالت لي افتحه....تَ شوف قلبي إن كان بعده مطرحه..... وإن صحّ ظني وشفت له عندك
رفاق..... بسترجعه وما بعود خليك تلمحه.... بسترجعه وبنسى ليالينا العتاق.... قلبي
إن هجرتك يذبحه مرة الفراق.... وإن ظل عندك كل يوم بتذبحه...."
ما أروع الحب عندما يكون
مسربلا بعزة النفس، سامي القيم، وافر الكرامة، عالي الهامة، رغم الجرح الغائر،
وغدر الخناجر!!!
ــ وهذا حبٌ شفيف صادق
صامت غريب.... تدور حكايته في مفرق "دارينا".... إنه ينتظر على المفرق،
ويكرر ذلك كثيرا، وهي تنتظر انتظاره، وتتحرق شوقا إليه، عيون تنقل لوعة الهوى،
وألسنة صامتة، وقلوب تتلوى، ومشاعر تتعانق فتعتلي وترتقي لتلتقي فوق السحاب، والعذرية
الملائكية تملأ الرحب، ويضوع عطر أنفاسها في المكان.... حبٌ غريب عجيب لا يعرف فيه
الحبيب اسم الحبيب:
" نطّرونا كثير
كثير عَ مفرق دارينا.... لا عرفنا أساميهم.... ولا عرفوا أسامينا.... عَ مفرق
دارينا".
أيّة روعة هذه؟! وأية
قصة غرامية صامتة صادمة صادقة تحلّق بعيدا في فضاء أجنحة الخيال؟! أية قلوب سامية
تحب مثل هذا الحب السامي؟! وأين هي من حب الجيوب الرخيص المزيف في هذا الزمان؟؟!
ــ تُرى ماذا فعل عصفور
الجناين؟ أما زال يحمل لكِ الرسائل من عند الحناين؟ وينفض جناحيه على شباك الدار
وهما يحملان لك أسرارا تحت طيّها أسرار؟ ها هو يومئ لك إلى الرمانة، ويرجوكِ زرقة
على ورقة، ومَرْقة إلى مكان سكن العاشق الولهان.... وما هذه "الشيفرة"
الساحرة التي تنقل رسائل العشق بينك وبين المحبوب؟؟! :
" كل ليلة عشية....
قنديلِك ضوّيه.... قوّي الضوّ شويّه.... وارجعي وطّيه.... بيعرفها علامة....
وبيصلي تَ تنامي.... وتقومي بالسلامة.... ويبقى قلبك لاين".
أيّ طهر هذا؟! أيّ
اكتفاء بهذا من وسائل الوصال المرغوبة؟! أيّ ارتقاء للعاطفة الدافقة المشبوبة؟!
ــ ما أخبار
"شادي" يا فيروز؟ تربيتما معا، عشتما أحلام الطفولة، وتنعمتما بألعاب
الثلج.... لكنّ الشر كان لأحلامكما بالمرصاد.... إنها الحرب الأهلية المجنونة التي
عصفت بأرز لبنان.... إنها نيران كوتْ قلوب أبنائه:
" ويوم من الأيام
ولعت الدني.... ناس ضد ناس علقوا بهالدني.... وصار القتال يقرّب عَ التلال والدني
دني.... وعلقت عَ أطراف الوادي.... شادي ركض يتفرج، خفت وصرت أندهله.... وينك رايح
يا شادي؟.... أندهله وما يسمعني..... ويبعد يبعد في الوادي.... ومن يومتها ما عدت
شفته.... ضاااااااع شادي".
ضاع شادي وغاص في فم
الشرّ الفاغر الشّرِه.... ابتلعه وادي الذئاب الجائعة اللئيمة، إنه لبنان الهادئ
الجميل الوديع تتناهشه قوى الطغيان، فيتشتت ويتمزق ويضيع. لكنّ الأحلام ظلت تداعب
الخيال، والذكريات ندوب في القلوب، والعقول مسكونة بالحنين والآمال بهدأة البال.
ــ عمَّ نتحدث من
أغانيكِ؟! وما ندعُ؟ وكلها قطع من السحر ورائع البيان. وكل أغنية منها حكاية من
العشق الريفي الطفولي العفيف، وأسطورة من الوله، وانتفاضة قلب كعصفور بلله القطر.
ماذا نقطف من أزهارك؟ وماذا نُبقي وكلها قوارير شذى رائعة الألوان؟! بل أنتِ زهرة
فريدة سحرت عيوننا، وعبقت في قلوبنا ووجداننا، وملأت حياتنا صفاء ونقاء ورهبانية
حالِيَة راقية محلّلة.
يا صاحبة القلب الذهبي؟
والحنجرة الهامسة المتغلغلة في الحنايا، يا عصيّة الابتسام، يا رفيعة الشأن، يا
عالية المقام، يا رزينة الوقفة، يا مهيبة النظرة، يا أيتها البتول، يا نسمة رسول،
يا همسة ليل، يا طاهرة الذيل، يا عذبة الكلام، يا دوحة الأنغام، يا باكورة الهوى،
يا لذة الكرى، يا أفاويق الأحلام.... ملأتِ دنيانا، وملكتِ قلوبنا، وجعلتِنا نذوب
أسى عندما نقارن بين فنّك الملتزم، وكثير من غثاء فنون هذه الأيام.
ــ يا رؤومة الأمومة،
عشرات السنين وأنتِ تواظبين دون كلل أو ملل على خدمة ابنك الستيني المسكين
"هَلي"، تخدمينه بدفق القلب، ورمش العين، ما جرى على لسانك تضجّر أو
تذمّر أو أنين، وترفضين إيداعه المشفى اللائق به المناسب لحالته، وتصرّين على
التمسك بأهداب الأمومة الصابرة الطاهرة النادرة.
ــ تحبين الزوج العاصي
حبا جارفا بصمت دون استعراض، ثم تفارقينه وتنفصلين عنه، فيعتصر قلبك ألما ساميا
دون اعتراض، وتظلين في الحالتين سرّا مكنونا، وبوحا مدفونا، وحنينا ساكنا مسكونا.
ــ يا صوت الضمير العربي
النقي، نصدّق نبوءاتك، ونتخفف من أسانا، ونبعث الآمال مجددا في جوانحنا بأننا
سنتسلق معك جبل الشيخ محررا، ونطوف بقاع الجنوب المحرر متجاوزين عذابات مجازر
"قانا"، وآلام "سجن الخيام"، عابرين نحو إصبع الجليل
والناقورة والمطلة وشمال فلسطين، وحيفا عروس المتوسط البكر، وعكا الجزّار لنسمع
هدير بحرها على أسوارها الصامدة العابقة ببطولات صلاح الدين، وخليل قلاوون، وأنفاس
عيسى العوّام.
أما زهرة المدائن التي
طُفتِ في شوارعها العتيقة الحزينة، ودققتِ أبواب دكاكينها، وبكيتِ مساجدها
وكنائسها وأطفالها المشردين، فقد وعدتِنا وصدّقنا بأنّ الغضب الساطع آتٍ، وأنّ
الأحرار الفاتحين قادمون، لكنْ لا بدّ قبل ذلك من أنْ ننصهر في الموقد طويلا
بالألم والصبر والإعداد وانتظار الوعد بالنصر.
إنه وعد الله، وهل يخلف
الله الميعاد؟!