بقلم الدكتور محمد الحيلواني
لم تعد دراسة اللغة مقتصرة على النحو أو الصرف أو الصوتيات كما كان الحال في الماضي. فدراسات اللغويات الحديثة (Modern Linguistics) لم تعد تنظر إلى اللغة بوصفها نظامًا شكليًا فحسب، بل باعتبارها نافذة لفهم العقل الإنساني وآليات التفكير. وتشير دراسات حديثة في عدد من الجامعات حول العالم، ومنها الأردن، إلى أن البحث في اللغة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بما يُعرف بنظرية العقل، إذ يساعد على فهم كيفية إدراك الإنسان للمعنى، وبناء المفاهيم، واستخدام اللغة في التواصل والإدراك.
في ضوء هذا التحول، يشهد الأردن اليوم نهضة علمية متميزة جعلت منه مركزًا متناميًا في المنطقة لدراسات اللغة الحديثة، من خلال مبادرات بحثية رائدة، وتعاون أكاديمي واسع بين الجامعات، وتنظيم لقاءات علمية دورية أرست بيئة خصبة للبحث والتطوير.
من الحقول التقليدية إلى آفاق متعددة
على مدى عقود، انحصرت دراسة اللغة في العالم العربي ضمن المجالات التقليدية مثل النحو والصرف والصوتيات، مع اعتماد كبير على المناهج الوصفية أو التراثية. أما اليوم، فقد اتسعت النظرة لتشمل العلاقة بين اللغة والتفكير والإدراك والتقنية.
وفي هذا السياق، برزت في الجامعات الأردنية مجموعات بحثية جديدة تجمع بين التخصصات، منها اللغويات الحاسوبية (Computational Linguistics) التي تمزج بين علوم الحاسوب وتحليل اللغة، واللغويات التجريبية (Experimental Linguistics) التي تربط دراسة اللغة بعلم النفس الإدراكي والعلوم العصبية. هذه المجموعات أسهمت في نقل دراسة اللغة من الإطار النظري البحت إلى بيئة بحثية حيوية تجمع بين التحليل العلمي والتطبيق العملي.
من الجهد الفردي إلى الشراكة البحثية
من أبرز ملامح التحول في الأردن الانتقال من الجهود الفردية إلى التعاون الأكاديمي المنظم. فقد أصبحت بعض الجامعات تنشئ مجموعات بحثية تضم أساتذة من تخصصات متعددة وتشجع الطلبة على المشاركة في المشاريع الجماعية، مما أسهم في إنتاج أبحاث نوعية مشتركة.
وتوسّع التعاون بين الجامعات الأردنية، مثل الجامعة الأردنية وجامعة اليرموك وجامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنيةوجامعة البترا وغيرها من الجامعات، فأصبح التأليف المشترك والإشراف المتبادل على الرسائل العلمية ممارسة شائعة تجمع بين الباحثين من هذه المؤسسات في مجالات متعددة، منها اللغويات الحاسوبية (Computational Linguistics) واللغويات التجريبية (Experimental Linguistics) وغيرها من الفروع الحديثة في دراسة اللغة. وقد أسهم هذا التعاون في رفع جودة الأبحاث المنشورة في المجلات المصنفة عالميًا، وفي بناء شبكة علمية متنامية تتيح تبادل الخبرات وتوحيد الجهود البحثية.
ولم يقتصر هذا التعاون على الجامعات داخل الأردن، بل امتد ليشمل مؤسسات أكاديمية في منطقة الخليج العربي، فضلًا عن شراكات بحثية مع جامعات في أوروبا وأمريكا الشمالية ومناطق أخرى من العالم العربي، نتج عنها أبحاث مشتركة ومنشورات علمية عززت حضور الدراسات الأردنية في المحافل العالمية.
كما أصبح من المعتاد أن يشارك طلبة الدراسات العليا في مشاريع بحثية مشتركة بإشراف أساتذة من أكثر من جامعة، مما عزز حضور الأردن في الساحة البحثية الإقليمية والدولية.
لقد أثبتت التجربة الأردنية أن العمل الجماعي والتبادل العلمي هما الطريق إلى التميز والحضور العالمي في مجال اللغويات الحديثة.
منصة وطنية للحوار العلمي
من المبادرات البارزة التي أسهمت في بناء هذا المشهد الندوة الوطنية في اللغويات التوليدية (Symposium on Generative Linguistics)، وهي ملتقى علمي يُعقد بالتناوب بين الجامعات الأردنية ويجمع الباحثين والطلبة من مختلف الجامعات لمناقشة أحدث الاتجاهات في دراسة اللغة والنظرية.
وقد أسهم هذا الملتقى في ترسيخ ثقافة أكاديمية قائمة على الحوار والانفتاح، وأتاح الفرصة لتبادل الأفكار وبناء شراكات جديدة بين المؤسسات البحثية داخل الأردن وخارجه.
مقومات النجاح
يمكن تفسير هذا الزخم في دراسات اللغويات الحديثة في الأردن بعدة عوامل مترابطة:
•تنظيم الجهود البحثية في مجموعات متخصصة تعمل وفق أهداف علمية واضحة.
•توسيع التعاون بين الجامعات داخل الأردن وخارجه، مما عزز تبادل الخبرات والمناهج.
•لانفتاح على المجلات والمؤتمرات العالمية لضمان حضور فاعل للأبحاث العربية في النقاشات الدولية.
•التوجه نحو التعدد التخصصي، حيث أصبحت دراسة اللغة تمتد إلى مجالات الذكاء الاصطناعي، والإحصاء اللغوي، والعلوم العصبية، والتحليل المعرفي.
تجربة يمكن البناء عليها
تقدّم التجربة الأردنية نموذجًا يمكن للجامعات العربية أن تستلهمه في تطوير بيئاتها البحثية. فالمجموعات العلمية النشطة تضمن استمرارية العمل الأكاديمي، والتعاون بين الجامعات يفتح آفاقًا جديدة للإنتاج والنشر، والملتقيات الدورية مثل الندوة الوطنية في اللغويات التوليدية (Symposium on Generative Linguistics) تحافظ على تفاعل المجتمع العلمي وتجدد نشاطه.
أما استهداف المجلات المصنفة عالميًا، فهو ما يجعل الأبحاث المنتجة في المنطقة جزءًا من الحوار العالمي حول اللغة والعقل والمعرفة.
نحو مستقبل بحثي أكثر تكاملًا
إذا استمرت هذه المنظومة في التطور، فسيشهد الأردن في السنوات القادمة مزيدًا من التعاون بين الجامعات، ومشاركة أوسع لطلبة الدراسات العليا في مشاريع دولية، وتشكّل شبكات بحثية عربية متخصصة في دراسات اللغويات الحديثة.
لقد أثبتت التجربة الأردنية أن دراسة اللغة ليست مجرد تحليل للأصوات أو البنى، بل وسيلة لفهم الإنسان نفسه. وما يجري اليوم في الجامعات الأردنية يؤكد أن العالم العربي لم يعد متلقيًا للمعرفة فقط، بل أصبح منتجًا لها ومُسهمًا في صياغة مستقبل دراسة اللغة في العالم.




