دلال اللواما
لم يكن خطاب جلالة الملكة رانيا في ميونخ كلمة عابرة تُقال ثم تُنسى. كان صرخة صادقة خرجت من قلب أم تحمل الألم، وزوجة تعرف معنى الفقد، وهاشمية أصيلة ترى الظلم ولا تقدر أن تصمت. كان صوتها صوت كل أم عربية تنام على وجع، وصوت كل إنسان ما يزال يحتفظ ببقية ضمير في عالمٍ تآلف مع القسوة.
جلالتها لم تصرخ حقدا ولم تلوح بكراهية بل وقفت بثبات وهدوء يشبه وقار الحق نفسه، لتقول للعالم: "نحن مع الحياة مع العدل لا مع الدم."
رفعت رأس الأردنيين والعرب جميعًا، وأعادت تعريف معنى أن يكون الصوت أخلاقيًا، إنسانيًا، حرًا لا يُساوم.
في كلمة مؤثرة خلال افتتاح قمة One Young World في ميونخ قالت جلالة الملكة رانيا أمام شبابٍ جاءوا من أكثر من 190 دولة: "رأى العالم ما هو قادم… لكنه أخفق في منعه."
تلك الجملة لم تكن وصفًا لحدث، بل فضحًا لصمت.
فضحًا للذين رأوا الجوع يحاصر أطفال غزة، والدم يغطي أبواب البيوت، ومع ذلك اختبأوا خلف عبارات باردة مثل: "الأمر معقّد".
الملكة رانيا قالت بوضوح إن ما يحدث في غزة ليس شأنًا محليًا، ولا صراعًا حدوديًا؛ بل امتحان أخلاقي للعالم كله.
فالصمت ليس حيادًا… الصمت مشاركة.
واللامبالاة ليست بُعدًا… بل جرح يُفاقم النزف.
أكدت جلالتها أن الكراهية لا تعمل وحدها، بل تجد من يبررها حين يختار الناس الوقوف على الهامش.
وقالت إن الأمل ليس تفاؤلًا ساذجًا، بل شجاعة.
شجاعة أن تطالب بحرية إنسان لم تعرفه ولم تلتقه قط، ولكنك تعرف أنه يستحق الحياة.
ولأن رسالتها كانت موجهة للشباب تحديدًا، فقد وضعت بين أيديهم مهمة: أن يكونوا شهودًا… لا متفرجين.
أن يقودوا التغيير حين تنهزم الكلمات أمام ضجيج القوة.
وفي لحظة صدق نادرة، ذكّرت الملكة رانيا العالم أن قيمة الحياة لا تُقاس بجنسية، ولا بلون، ولا بدين.
وأن الإنسان إنسان… ولو كانت داره تحت السماء المحروقة.
خطاب الملكة رانيا في ميونخ سيُذكر طويلاً؛
ليس لأنه قيل في مؤتمر عالمي بل لأنه جاء في الزمن الذي خاف فيه الكثيرون من قول الحقيقة.
في وقت تتآكل فيه القيم تحت ضغط المصالح، جاء صوتها كالبوصلة…
يدلّنا على الطريق الذي لا يخون: طريق العدالة، والرحمة، والإنسان
التاريخ لا يحفظ أسماء الذين شاهدوا الظلم ومرّوا.
التاريخ يحفظ من تكلم وهو قادر أن يصمت.
ومن وقف وهو قادر أن يجلس.
ومن صرخ بالحق حين كان الصمت هو الأسهل.
وهذا ما فعلته الملكة رانيا… ضمير الإنسانية في تلك اللحظة.




