القلعة نيوز:
كتب علي السنيد:
قبل نحو عقد من الزمان مضى، وانقضى من حياتي، وكنت حينها اعمل مديرا لاحدى الجمعيات الثقافية، وكنت افتقدت احد أصدقائي لأيام متواصلة، وعندما سألت عنه علمت انه كان منشغلاً بتشييع، وإقامة بيت عزاء لاحد الجيران الذي قضى سنواته الاخيرة وحيدا، وابناؤه يطاردون احلامهم في الغربة.
واثر ذلك التقينا، وكان يعروه الحزن العميق على ذلك الكهل الذي توفي بصمت ، ورحل عن الدنيا ، ولم يحضر بعض أبنائه الذين يقيمون في الخارج جنازته، ولم يكلفوا انفسهم عناء المجيء الى الأردن، والمشاركة في تشييع جثمان والدهم الذي دفن بمن حضر.
اخبرني حينها ان اشد ما يؤلمه ان هذا الراحل للتو ترك في الدنيا ملايين الدنانير، والعقارات التي ستؤول الى أولئك العاقين من ابنائه، وتألمنا سويا على مصير هذا الانسان الذي لو وعى حقيقة الدنيا لكان ادخل السرور على قلوب المئات من المحزونين والفقراء، والمعوزين بماله ، ولكان ذاق حلاوة عمل الخير، وبلغ باحسانه محبة الله سبحانه وتعالى، القائل في كتابه العزيز ”ان الله يحب المحسنين".
غير انه رحل عن الدنيا لا يحمل معه شيء، وترك الاموال من خلفه لأولئك الابناء الذين لم يحظ منهم بمجرد نظرة وداع تليق به كأب.
هذه القصة تختصر في جانب منها طريقة عيش بعض الأغنياء الذين يقضون أعمارهم في وهم التملك ويجمعون الملايين ومئات الملايين، ويحرمون انفسهم من السعادة بها ، ومراعاة حقوق الفقراء الذين هم اولى بالرعاية، ولا يذوقون شعور السعادة المشترك الذي يتولد عن اسعاد الاخرين .
وكثير ممن يضيعون اعمارهم في احلام جمع الاموال والثروات يعيشون، ويموتون دون ان يدركوا كنه الحياة، وسرها العظيم القائم على اننا كلنا نمثل ادورا مؤقتة على مسرح الحياة الكبير، والعاقل من يجيد أداء دوره، ويقدم افضل ما عنده، ويرحل بسلام دون ان تخدعه لعبة الحياة ببريقها الاخاذ، ويصدق ان بقاءه متواصل فيها للابد، ونحن محض خيالات ستطويها يد الأيام يوماً ، وسنقف امام الخالق سبحانه وتعالى تحت طائلة المحاسبة والمسؤولية.
وذلك ان تراكم الأرصدة في البنوك وامتلاك العقارات والفلل والاراضي وكل المتعلقات المادية مهما امتدت، واتسعت لا تدوم لاحد مهما عاش على هذه الدنيا، ومهما كان الثراء فاحشاً فليس للإنسان من ماله الا ما استخدمه في احتياجاته .
والمال الباقي هو ما يقدم في اعمال الخير، والبر، والإحسان ، وسيجده المحسنون في انتظارهم عند الله سبحانه وتعالى الذي تسير اليه البشرية مرغمة، وحتف انفها.
والكل له حساب في الاخرة، وسيذهب اليه مهما طال بقاؤه في الدنيا، ويستطيع ما دام حيا من ان يحول من املاكه الدنيوية الى حساب الاخرة ليسعد به عندما يرحل لا يلوي على شيء، ويدفن في مترين من التراب، وهنالك قد يجد بعض أصحاب الملايين والمليارات حسابهم مصفرا حيث لا ينفع الندم.
وحسبنا قول الله تعالى " واتقوا يوماً ترجعون فيه الى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون".
و اصحاب الملايين يمكنهم ان يقوموا بدور وطني واخلاقي كبير، ويمكن للمال ان يكون وسيلة لاكتشاف هويتهم الانسانية، وطريقا رائعا الى السعادة المشتركة من خلال ادخال الفرحة على المساكين والبؤساء في هذه الدنيا فيسعدون، ويشعرون ان لحياتهم قيمة، ومعنى والعيش في عطاء دائم.
وانا استغرب عندما اتابع قصص واخبار الأنشطة الإنسانية الكبيرة على مستوى العالم التي يقوم عليها اثرياء من أمريكا، واوروبا، والدول الغربية ، وكيف ينفقون المليارات في مساعدة الشرائح الاجتماعية المحتاجة للتمكين، ودعم حاجة بعض الدول الفقيرة في الحصول على المطاعيم ، او في مكافحة الامراض الخطيرة في المجتمعات الفقيرة .
وتجد ان السيرة الذاتية الخاصة باثرياء العالم تؤكد ان عديدين منهم يضعون عشرات المليارات، وبعضهم جل ثرواتهم من اجل الاعمال الإنسانية الكبيرة رغم ان مجتمعاتهم تكاد ان تكون مكتفية، وتتوفر فيها مقومات العيش الكريم.
وفي حين ان مجتمعاتنا تجد فيها من المقتدرين من يتهربون عن اداء واجباتهم الدينية والوطنية، ولا يساهمون في تخفيف حدة الفقر والعوز الذي يمس بسلامة، وامن المجتمع.
لا شك ان هنالك محسنين في بلدنا ، وهم يحنون على المساكين، ويقومون بواجب وطنهم، ومجتمعهم في الرعاية ، ويتحسسون اوجاع الفقراء، ولكن الفقر معضلة كبيرة، ، ويحتاج الى جهود واسعة، و صحوة ضمير.
ونحن تلزمنا مبادرات خيرية كبيرة على مستوى الوطن يمكن ان يكون لها مردود حقيقي في التخفيف من حدة الفقر والبطالة وذلك في الاماكن التي تعيش حقيقة المعاناة اليومية، وفي مواسم التصحر الوطني وقد تفتقر للغذاء والدواء والدفء وتمثل خاصرة الدولة الضعيفة.



