نسرين الطويل
هناك سؤال جوهري يرافق أي محاولة جادة للنظر الى واقعنا: هل نعاني ازمة في التعليم، ام ازمة في انتاج القدرة على التفكير؟
الإجابة، للأسف، ليست خيارا بين الاحتمالين، بل هي تشخيص لحالة مركبة: نحن نعاني ازمة وعي. ازمة تبدأ في الفصل الدراسي ولا تنتهي عند حدود المجتمع، بل تتغلغل في طريقة رؤيتنا لأنفسنا وللعالم من حولنا. الخطر ليس في نقص المعلومات، فالعصر الذهني الذي نعيشه يفيض بها، بل الخطر الحقيقي يكمن في ذلك العجز المؤسسي والشخصي عن تحويل تلك المعلومة الى فهم، وتحويل ذلك الفهم الى وعي يغير السلوك ويبلور الرؤية.
في لحظة تاريخية اصبح فيها العقل البشري هو المورد الاستراتيجي الاثمن، واصبح اقتصاد المعرفة هو ساحة التنافس الحقيقية بين الأمم، ما زال نظامنا التعليمي عالقا في منطقة رمادية قاتلة. منطقة تتذبذب بين حفرة الحفظ الالي وقمة التفكير النقدي، بين تكرار الماضي واعمال العقل لاستشراف المستقبل. عندما تتحول العملية التعليمية من سعي نحو المعنى الى تدريب على الاسترجاع، وعندما يستبدل فضول السؤال بثقافة الجواب الواحد الصحيح، فأننا لا نخسر طالبا فحسب، بل نخسر قدرة مجتمع بأكمله على انتاج عقول مبدعة، قلقة فكريا، قادرة على التشكيك والتخيل وبناء ما هو ابعد واجمل مما هو قائم.
تظهر الكارثة في منتج هذا النظام: طالب يتخرج وهو يحمل شهادة تزين الحائط، لكنه كثيرا ما يتخرج وهو يحمل فراغا في الرؤية وضبابية في الاتجاه. لان المدرسة، في غالبيتها، علمته تفاصيل المواد، لكنها لم تعلمه كيف ينظر اليها. لم تعلمه كيف يربط بين معادلة فيزيائية واشكالية بيئية، او بين حدث تاريخي وواقع سياسي معاصر، او بين قصيدة أدبية وصراع انساني داخلي. لقد فصلت له المعرفة الى أجزاء، ونسيت ان تعلمه سر تكاملها داخل عقله ووجدانه.
لذلك، لا يمكن اختزال الازمة في ثقل المناهج او قلة الموارد، رغم اهميتهما. القلب من الازمة يكمن في الرؤية الفلسفية التي تقاد بها العملية التعليمية. انها ازمة في علاقتنا مع السؤال ذاته. السؤال الذي يعتبر محرك الاكتشاف ووالد كل معرفة، قد تحول في كثير من حجرات الدراسة الى عنصر مزعج، الى دليل على التمرد او قلة الفهم، لا الى علامة على عمق التفكير واشتعال العقل.
النتيجة هي انسان قد يكون "معلوماتيا" لكنه فقير "وعيا". قد يعرف الكثير، لكنه لا يفهم كيف يعيش هذا الكثير، او كيف يسخرونه لخدمة الانسان وإصلاح الأرض هذه هي الفجوة الخطيرة التي تنتج لنا متعلمين تقنيين، لكنها تفشل في انتاج حكماء، ومفكرين، وقادة رأي يمتلكون بوصلة أخلاقية وروية فكرية.
الخروج من هذا المأزق لا يحتاج اصلاحا تربويا فحسب، بل يحتاج ثورة في الوعي. ثورة تبدأ باعتبار ان الهدف الأعلى للتعليم هو صناعة الانسان الواعي: الانسان الذي يملك أدوات المعرفة، ولكن فوق ذلك يملك القدرة على تأويلها، ونقدها، وتسخيرها لصناعة حياة اكثر إنسانية وعدلا. يحتاج الى تحول من تعليم الإجابات الى تربية الأسئلة، ومن تلقين الحقائق الى تنمية ملكة الحكم على الأشياء.
هذا هو التحدي الأكبر الذي نواجه، وهو في الوقت نفسه البذرة التي يمكن ان تخرج من ازمتنا جيلا مختلفا. جيل لا يكتفي بحمل الشهادة، بل هو حامل لرسالة. لا يكتفي بمعرفة "كيف"، بل يسال باستمرار "لماذا". عندها فقط، نتحول من مجتمعات تحفظ تراث الفكر، الى مجتمعات تنتج الفكر نفسه. وهذا هو الفارق بين ان تكون تاريخا، وبين ان تصنع التاريخ.
هذا المقال يمثل رؤية شخصية ضمن جهود برنامج "مؤثرون" الرامية الى تحفيز الحوار الفكري البناء وإعادة تصور دور الثقافة والتعليم في صياغة المستقبل.




