القلعة نيوز-
أ.د. خليل الرفوع
«قِفَا نبكِ»
قفَا نبكِ من ذكرى حبيبٍ ومنزلِ
بِسِقْطِ الْلِوَى بينَ الدَّخولِ فحوملِ
هما أول كلمتين في معلقة امرئ القيس، الشاعر الجاهلي ذي الأصل اليماني القحطاني الذي عاش حياته في ديار بني أسد شمال شبه الجزيرة العربية ، وقد اكتمل الشعر في زمنه، وكان هو أحد الفحول الكبار الذين كان لهم القِدْحُ المُعلَّى في نضوج الشعر العربي قبل الإسلام : أسلوبَ بيانٍ وجماليةَ صورِ وإيقاعَ وزنٍ وعمقَ رؤيةٍ، من عيون الشعر العربي تلك المعلَّقة اللامية التي تتكشف فيها الحياةُ العربية وطقوس الديانة وأساليب الحضارة والتوازنات النفسية وجماليات الفن، فكل بيت يُعَدُّ قصيدة مفتوحةً للتأويل؛ وفي رأيي أنها أجودُ قصيدة في الشعر العربي الجاهلي الذي يُعَدُّ أفضلَ عصر أدبي ؛ لقيمته اللغوية والفنية والبيانية والأسلوبية .
قفا، هو فعل أمر مبنيٌّ، من حيث البناءُ النحوي التركيبي وهو موجَّهٌ من حيث الخطاب لاثنين معًا، وجوابه فعل مضارع مجزوم، نبكِ، مُعَبِّر عن خطاب جماعي . لم يعِ القدماءُ لغويينَ ونقادًا دلالةَ البناء الشعري العام ؛ لأنهم لم يبحثوا في دلالة المفردة متواشجةً مع الدلالة العامة المقصودة في سياق النص، كما لم يعُوا أن البيت الأول في أي نصٍّ مكتملِ البناء هو سر القصيدة الذي يحمل مضامينها وأسرارها، إنَّ مركزية رؤية امرئ القيس هي أنه يريد أن يكون بديلا عن الآلهة التي لم تعد قادرة على الخصب، نعم، ولِمَ لا يكون عندهم في ذلك الزمن آلهة، ألم يحدثنا القرآن عن الَّلات والعُزَّة ومناة الثالثة الأخرى، وإذا كان الناس يؤمنون بآلهة وثنية مصنوعة من الحجر أو من الرمل فَلِمَ لا يكون الشاعرُ الإنسانُ الخالقُ الأصغرُ بإبداعهِ هو البديلَ القادرَ على التغيير سواء أكانت الآلهة حاضرة أم غائبةً ؟ على الأقل تغيير فني مُتَخَيَّل إِنْ لم يكنْ واقعيًّا مُعَايَنًا.
قفا، يخاطب الشاعر نفسه بصيغة اثنين لتقوية المعنى وتأكيده، وهو أسلوب تجريدي إذ يجرِّد نفسَه لمحاورتها حوارا داخليًّا أو خارجيا لا فرق في دائرة المناجاة، ولعلهما نفسانِ ثنتانِ، الأولى الشاعرة بأحلامها واستشرافاتها، والأخرى الحقيقية بإنسانيتها وواقعيتها، وقد تكررَ مخاطبةُ الواحد بالمثنَّى في القول العربي شعرًا وقرآنًا (خليليَّ، عُوجا، عرِّجا، قولا،ألا لا تلوماني، ألقيا في جهنم)، ولم يستخدم الشاعر صيغة الجمع (قفُوا) على الرغم من أن الوزن العروضي لن يتخلخلَ ؛ لأن المقصود في الأصل الشاعر وليس الآخرَ الجماعةَ ، يأمر نفسَه الحقيقية أو الذات الأخرى الشاعرة أو كليهما بالوقوفِ على الديار التي خلت من أهلها تأمّلًا وخشوعًا ليكونَ الفعلُ المتشكلُ مباشرةً بكاءً جماعيًّا ليس من أولئك الراحلين بل من الشاعر نفسه، فالوقوف هو المحرِّضُ على البكاء لكلِّ مَنْ يتسشعر قيمة الوقوف وأهميته الوجودية، إنه وقوف على مكان قد غادرته آلهة الخصب، فأصبح ذكرى حبيب ومنزلا عافيا وسِقْطا ملتويا من الرمل المنعقد لا حياة فيه، غُوْدِرَ من البشرِ، بعد أنْ أصبح طللا بلا حياة ومكانا بلا ماء، فليبكِ هوَ وليبكِ معه كل قادر على البكاء، ففي البكاء ماء يعوِّضُ ماء الآلهة الراحلة، فهل نجح الشاعر في أن يكون آلهة إنسانية بدلا من آلهة وثنيةٍ حجرية قد رحلت، وبرحيلها حُوِّلَتِ الديارُ قحطًا ولم تُسْكَنْ بالآرام والعِيْنِ كما سُكِنتْ ديار أمِّ أوفى في معلقة زهير بن أبي سُلمى، أو ديارُ عَبِيْدِ بن الأبرص التي بُدِّلتْ من أهلها وحوشًا، في ديار امرئ القيس تفننتِ الرياحُ في التَّعْفية والتغيير لتكون بلا حياة، وهذا دأبُ امرئ القيس من قبلُ مع (أم الحويرث) آلهة الحراثة (وأم الرباب) آلهة المطر، نعم لقد نجح الشاعر في إحداث التغيير وإعادة الحياة للمكان، والدليل على ذلك :أن دموعه فاضت، فَسَقَتْ وأَرْوَتْ:
فَفَاضَـتْ دُمُـوْعُ العَيْـنِ مِنِّـي صَبَـابَـةً
عَلَى النَّحْرِ حَتَّـى بَـلَّ دَمْعِـي مِحْمَلِـي
وأنه قد عقر مطيته للعذارى، فأكلنَ اللحم، وقد زاد اللحم والشحم حتى أمسينَ يلعبنَ به ويتقاذفْنَه شَبَعًا وبطَرًا، وقد أوتي امرؤ القيس قوةً جسدية تجعل الجملَ بما يحمل يميل به وبصاحبته وبالغبيط معا، وتتحول فاطمة الرمز في القصيدة إلى آلهة كغيرها، تفطمه عن التعالق بها فيلجأ إلى بيضة الخدر متجاوزا أحراسَها،امرأة من عالم الآلهة لكنها بشرية في جمالها تضيء الظلامَ بالعِشاء ؛ ليقيم علاقة أبدية مقدسة، وليكونَ هو المسيطر والسيد والمفتون بسحر الجمال المقدس، وقد نجح كذلك في أنسنة الزمن وحَيْوَنَتِهِ واستطاعَ إيقافه وهزيمته وجعله كالإصباح مفرَّغا من كل حياة، كما كانَ السيدَ في الصيد، وفي آخر القصيدة تماهٍ مع أولها، استحضارُ سيلٍ يكبُّ على الأذقانِ دوْحَ الكنَهْبَل وقد أنزل التيوس الجبلية من رؤوس الجبال , هكذا استطاع امرؤ القيس أن يكون بديلا مُتَخَيَّلًا ناجحا عن آلهة المطر التي رحلت دون استئذان فعمَّ في الأرض قحطٌ أفضى إلى ارتحال القبيلة بحثا عن الماء، وفي ظلال حياة الموات المؤكَّد يظهرُ امرؤ القيس بفعله الفني قادرا على أن يكون بديلا عن الآلهة من خلال مضامين القصيدة مترابطةً، لذا كان وقوفا فرديا على المكان، لكن البكاء كان جماعيا أو لنقل بكاءً مساويا للبكاء الجماعي، وما زلنا في زمن انحباس المطر نستمطرُ اللهَ استسقاءً كي تعودَ الحياةُ لدورتها ولنا معها أيضا، ومن يستطيع إنزالَ المطر غير الله ! لكن تعددَ الآلهة قبل الإسلام واستمطار إحداها كان واقعا حقيقيا، ألا يوجد عند اليونانيين القدماء ما عند العرب من تعدد لأسماء آلهة سمَّوها، وما كان امرؤ القيس إلا آلهة المطر في المعلقة، وفي المطر ماءٌ وفي الماء حياة.