القلعة نيوز- الناقد السعودي جلال الطالب
«عيناكِ، يا بغداد، منذُ طفولَتي/ شَمسانِ نائمَتانِ في أهدابي. لا تُنكري وجهي، فأنتَ حَبيبَتي/ وورودُ مائدَتي وكأسُ شرابي. بغداد جئتُكِ كالسّفينةِ مُتعَباً/ أخفي جِراحاتي وراءَ ثيابي».
لم تكن هذه الأبيات الشعرية التي نطق بها الشاعر نزار قباني -رحمة الله عليه- عابرة بين كلماته العابرة فهو يحاكي حال كل إنسان عربي يفتخر بعروبته ويعتز بها، فبغداد باقية منذ الأزل رمز للفخر والأصالة والعزة وستبقى كذلك شامخة في مبادىء كل عربي قد رضع من ثدي الأرض.
لم يسعفني الزمان أن أزور بغداد الغالية وأقف إعجابا أمام نصب الحرية فمنذ إدراكي للأشياء من حولي وهي تمر بحروب متتالية.
حكاية نُصب الحرية كما نقُل إلي هو أشبه بلوحة بانورامية بارتفاع 15 مترا وعرض 50 مترا تحتوي على 14 قطعة من المصبوبات البرونزية المنفصلة، وعندما نتأملها تكون الرؤية من اليمين إلى اليسار كما في الكتابة العربية تسرد تاريخ وأحداث العراق منذ الحضارات القديمة كالبابلية والأشورية والسومرية بالإضافة لأحداث ثورة تموز 1958 ودورها وأثرها على الشعب العراقي برمزية وشخوص، وكثير من الموضوعات التي استلهمها الفنان جواد سليم -رحمة الله عليه- من قلب العراق لهذا النُصب أثره على المجتمع العراقي على مختلف الثورات والعصور، فلم يتوحد العراقيون برمز يوما كما توحدوا باتفاقهم بأن هذا النُصب وميدان التحرير هو رمز للتخلص من العبودية والظلم كما هو حاصل الآن.
بالرغم أنه لا يحتوي على اتجاهات سياسية ولا دينية غير كونه رمزا للتحرر، إلا أنه أصبح رمزا للحرية فقد أبدع النحات جواد سليم هذا العمل الفني كحال رواية تسرد أحداث العراق العريق، بيد أن جواد سليم قد توفاه الله وبقيت الأحداث تعصر بالعراق ولم يتوقف الاقتتال إلى يومنا هذا بتحفيز من رجال الدين بفتاوى الجهاد المزعوم لكلا الجانبين ببزوغ الظلاميين على السطح سواء كانوا ميليشيات التي تقتل بالهوية بحجة الدفاع عن المراقد الدينية أو التكفيريين الذين يتطلعون لإقامة الخلافة الإسلامية حسب مقاييسهم والخونه الذين امتطوا الدين مطية لتحقيق مآرب اسيادهم المجوس والضحية بغداد العروبة والإنسان العراقي البسيط قبل أن يهشموا تمثال أبي جعفر المنصور مؤسس مدينة بغداد على يد المليشيات الصفوية وتمثال فتاة الربيع على يد التكفيريين.
ويبقى السؤال يدور بدائرة المدار حول ثورة ابناء العراق بميدان التحرير مستغلين بظلال نُصب الحرية الذي سرد تاريخ العراق كرواية لم يُكتب المشهد الأخير لها.. هل سيأتي يوما ما جواد سليم آخر ليكمل الجزء المفقود من نُصب الحرية بأحداثه الحاضرة.