ساقتني قدماي إلى مقهى الشريف الدولي الكائن في جبل الحسين قبل شهر علماً بانني كنت من رواده منذ اكثر من عشرين عاماً ، ولكن انقطعت عن ارتياده فترة طويلة ، وحين رجعت إلى هذا المقهى رأيت وسمعت تغييرات جديدة ومثيرة ، مع ان مالكه رحمه الله (أبو خالد الشريف) والذي توفي قبل سنوات وكان مواظباً على فتح المقهى وإغلاقه وتقديم كل ما يلزم للزبائن . وكان رحمه الله رجلاً مثقفاً ومهندماً وابتسامته لا تفارق ثغره ، وبعد وفاته وخلال تلك الفترة الزمنية اصبح لهذا المقهى زبائنه المتنوعين . واستلم ادارة المقهى ابنه باسل الشريف الذي كنت أعرفه وهو في مرحلة الثانوية ودرس المرحلة الجامعية وسار في مسار والده في عملية الإدارة ويدعونه أبو وديع . وذاكرتي لم تخونني حين تذكرت بعض الشخصيات الاجتماعية التي كانت من زبائن المقهى وتوفاها الله ، وعلى سبيل المثال المرحوم ابو حسين الرجل الأنيق في مظهره ودماثة أخلاقه ، وأبو أيمن صاحب النكتة والابتسامة وغيرهم . زبائن المقهى ياتون من كل مكان سواء من العاصمة أو من اطرافها ومنهم من يأتي من خارج العاصمة ، وظل هذا الارتباط المكاني لهم طيلة هذه الفترة . وتبدأ فترة الحوار الثقافي الممزوج بالمرح والدعابة والجد والمزاح بعد عصر كل يوم وتتوزع الأدوار بطريقة تلقائية حيث تجلس كل مجموعة مع معارفها ، فمنهم من يجلس بالزاوية ومقابل المكيف ، ومنهم من يفضل الجلوس على الجانب الأيمن أو الأيسر ومجموعات أخرى تحب الجلوس أمام المقهى على اليمين وعلى اليسار ومنهم من يأخذ مكاناً منفرداً بجانب مقهى ، ويفضل الجلوس لوحده ولا يريد الاختلاط . وتبدا مرحلة لعبة الشدة ذات التنافس بين الأطراف ويظل التحدي بين اللاعبين بلغة ضمن النص وأخرى خارج إطار النص والملاحظ أثناء اللعبة بانه لا يوجد من يصنع الزعل بينهم ؟ فمن الممكن أن يختلفوا في نوعية اللعب وأداءها ولكن ممنوع الخلاف (أي القطيعة)بينهم مهما حصل (إنها روح المحبة والمودة والتماثل في الأحاسيس والمشاعر الصادقة . وكل واحد يطلب من المشروبات الساخنة أو الباردة والذي يتفنن في صناعتها المعلم رجب والذي واكب المقهى منذ افتتاحه ويجلس وراء الكاونتر وعيونه اتجاه الزبائن وعن طريق الإيماء يعرف ماذا يرغب الزبون من هزه الرأس والابتسامة دون كلام . واما علي صانع نفس الأرجيلة والذي يحتضن الأرجيلة بعد تجهيزها كاملة ليرضي الزبون ويتابع الأراجيل الموجودة بالصالة وأي خلل تجده يقوم بالواجب وهذا يدل على إخلاصه في هذا العمل المتوجب عليه . وأثناء اللعب تبدأ المناكفات بين فريقي اللعب ، أحياناً برفع الصوت أو بالألغاز أو الشتم المحبب ،أي معركة بدون أسلحة حية وبلغة التحبب والثقة بين اللاعبين ويستمر هذا الوضع حتى العاشرة مساءاً او أكثر . وبين فترة وأخرى يدخل احد كبار السن وفي يده جاط من التين ويوزع على جميع الحاضرين ولكن الأهم من ذلك وحتى لو كان الجميع مشغولين باللعب ، وبدأ الذان للصلاة وبالذات للمغرب والعشاء أغلبية الزبائن يترك كل ما لديها وتتجه للصلاة بالمسجد جماعة دون أن يوقفها شيئ (هذا التزام خلقي وواجب العبد اتجاه ربه ). فعلاً غريب هذا التجمع في هذا المقهى الذي يحمل في طياته شعور بالأمن والطمأنينة والمحبة اتجاه الزبائن لبعضهم البعض . وعلى سبيل المثال نجد الشاب الوسيم المهندس أبو عدي وأثناء اللعب يعاكس من حوله أو على طاولة أخرى بكلمات يرد عليها الآخرين بالمثل ، ولكنها تدل على المحبة والمرح ومحاولة التخلص من الشوائب النفسية ، هذا أبو عدي (عراب الشدة) وزعيمها ويكون بالمقابل الشاب الودود رامي صاحب محلات خضار وفواكه وصاحب النفس الطيبة وأثناء اللعب ينهض لسيارته ويرجع حاملاً بيده عشاءً سريعاً من اللبنة والبندورة ، ويضعها على الطاولة وتمتد أيادي اللاعبين ويأخذ كل منهم نصيبه وكأنهم لا يريدون العشاء في البيت . ببساطة هذا السلوك يدل على نفسيات أصحابه الجميلة بعيداً عن الحقد والكراهية . ونجد أيضا أبو سليم رجل متزن في وسط العمر ،لا يعرف الزعل أو الغضب ولكن مشاركاً في مناكفة من يجلسون معه ، وأبو العبد بائع الخضار المتجول يلعب بقوة وتوتر ، ويفرح كثيراً حين يفوز ولو خسر فلا زعل أبداً ، وأما عامر الابن المدلل وهو أصغرهم سناً يلتهي بأرجيلته ولازم العامل هو الذي يشغلها له ونفسيته جميلة ، والشخص الانيق حسين الحلاق ابن أبو حسين كلما أراه أتذكر والده رحمة الله عليه ومن الرعيل القديم الأستاذ أحمد مدرس اللغة الانجليزية أصبح جزءاً من تراث هذا المقهى وأما أبو وديع صاحب المقهى تجده يتجول بين الموجودين بروح مرحة ومداعبة لطيفة ليطمئن على أداء قهوته . تمنيت أن تكون هذا التماثل والتوافق بين دولنا العربية تحقيق مفهوم الوحدة والقومية ولا يعرفون بعضهم إلا في اجتماعات مجلس الجامعة العربية (الرجل الضعيف) وحتى قراراتهم اتجاه قضيتنا الأساسية الفلسطينية لا تتعدى إلى الشجب والاستنكار . لماذا لا تكون قلوبهم على بعض في السراء والضراء وحتى في المواقف الدولية منهم من يؤيد ومنهم من يشجب ومنهم من يصمت ، فإلى متى ستبقى هكذا ؟ لكن سؤال لماذا نجد أيضاً فريق من الزبائن من ثلاثة أو أربعة أفراد يجلسون بدون شرب الأرجيلة ويتحدثون بينهم عن واقع الحياة . ما هو الدافع لهذا السلوك الثقافي في المقهى ؟ أهو الهروب من البيت ؟ أم التفريغ النفسي؟ أم التخلص من الضغوطات التي أوجدتها الجائحة كورونا. أم أن هنالك ضغوط فوقية نفسية لا يستطيعون تحملها فيتخرجون حتى يتم اشغال عقولهم بأمور أخرى ومن ثقافة أخرى . مجتمعنا الأردني مجتمع مثقف ولدى أبنائه القدرة على الابداع والابتكار وتغيير سلوكنا إلى سلوك حضاري نقي يتماشى مع قيمنا الاجتماعية . فأين تكمن المشكلة ؟هل هي في الظروف القاهرة أم في عقولنا ؟ أم في الضغوطات التي تلازمنا طيلة الوقت . ان دور مثقفنا أصبح ضعيفاً يعجز عن التغيير والتقدير والنقد وما عليه إلا أن يأخذ كتاباته ويجلس بجانب إحدى جداول المياه مساءً ويستمع إلى نقيق الضفادع . هدفي من هذه المقالة لتبيان واقعية ما يحدث كعينة في هذا المجتمع ومعرفة مواطن القوة والضعف وحتى تستطيع معرفة الخلل وأن يقوم أصحاب القرار بمعالجته أو التخفيف من هذه المشاكل التي تواجه المواطن ومحاولة تخليصه من الصفيح الساخن الذي أحرق جسده وتفكيره .
واقعية المشهد (مقهى الشريف الدولي -جبل الحسين)وثقافة الحوار
ساقتني قدماي إلى مقهى الشريف الدولي الكائن في جبل الحسين قبل شهر علماً بانني كنت من رواده منذ اكثر من عشرين عاماً ، ولكن انقطعت عن ارتياده فترة طويلة ، وحين رجعت إلى هذا المقهى رأيت وسمعت تغييرات جديدة ومثيرة ، مع ان مالكه رحمه الله (أبو خالد الشريف) والذي توفي قبل سنوات وكان مواظباً على فتح المقهى وإغلاقه وتقديم كل ما يلزم للزبائن . وكان رحمه الله رجلاً مثقفاً ومهندماً وابتسامته لا تفارق ثغره ، وبعد وفاته وخلال تلك الفترة الزمنية اصبح لهذا المقهى زبائنه المتنوعين . واستلم ادارة المقهى ابنه باسل الشريف الذي كنت أعرفه وهو في مرحلة الثانوية ودرس المرحلة الجامعية وسار في مسار والده في عملية الإدارة ويدعونه أبو وديع . وذاكرتي لم تخونني حين تذكرت بعض الشخصيات الاجتماعية التي كانت من زبائن المقهى وتوفاها الله ، وعلى سبيل المثال المرحوم ابو حسين الرجل الأنيق في مظهره ودماثة أخلاقه ، وأبو أيمن صاحب النكتة والابتسامة وغيرهم . زبائن المقهى ياتون من كل مكان سواء من العاصمة أو من اطرافها ومنهم من يأتي من خارج العاصمة ، وظل هذا الارتباط المكاني لهم طيلة هذه الفترة . وتبدأ فترة الحوار الثقافي الممزوج بالمرح والدعابة والجد والمزاح بعد عصر كل يوم وتتوزع الأدوار بطريقة تلقائية حيث تجلس كل مجموعة مع معارفها ، فمنهم من يجلس بالزاوية ومقابل المكيف ، ومنهم من يفضل الجلوس على الجانب الأيمن أو الأيسر ومجموعات أخرى تحب الجلوس أمام المقهى على اليمين وعلى اليسار ومنهم من يأخذ مكاناً منفرداً بجانب مقهى ، ويفضل الجلوس لوحده ولا يريد الاختلاط . وتبدا مرحلة لعبة الشدة ذات التنافس بين الأطراف ويظل التحدي بين اللاعبين بلغة ضمن النص وأخرى خارج إطار النص والملاحظ أثناء اللعبة بانه لا يوجد من يصنع الزعل بينهم ؟ فمن الممكن أن يختلفوا في نوعية اللعب وأداءها ولكن ممنوع الخلاف (أي القطيعة)بينهم مهما حصل (إنها روح المحبة والمودة والتماثل في الأحاسيس والمشاعر الصادقة . وكل واحد يطلب من المشروبات الساخنة أو الباردة والذي يتفنن في صناعتها المعلم رجب والذي واكب المقهى منذ افتتاحه ويجلس وراء الكاونتر وعيونه اتجاه الزبائن وعن طريق الإيماء يعرف ماذا يرغب الزبون من هزه الرأس والابتسامة دون كلام . واما علي صانع نفس الأرجيلة والذي يحتضن الأرجيلة بعد تجهيزها كاملة ليرضي الزبون ويتابع الأراجيل الموجودة بالصالة وأي خلل تجده يقوم بالواجب وهذا يدل على إخلاصه في هذا العمل المتوجب عليه . وأثناء اللعب تبدأ المناكفات بين فريقي اللعب ، أحياناً برفع الصوت أو بالألغاز أو الشتم المحبب ،أي معركة بدون أسلحة حية وبلغة التحبب والثقة بين اللاعبين ويستمر هذا الوضع حتى العاشرة مساءاً او أكثر . وبين فترة وأخرى يدخل احد كبار السن وفي يده جاط من التين ويوزع على جميع الحاضرين ولكن الأهم من ذلك وحتى لو كان الجميع مشغولين باللعب ، وبدأ الذان للصلاة وبالذات للمغرب والعشاء أغلبية الزبائن يترك كل ما لديها وتتجه للصلاة بالمسجد جماعة دون أن يوقفها شيئ (هذا التزام خلقي وواجب العبد اتجاه ربه ). فعلاً غريب هذا التجمع في هذا المقهى الذي يحمل في طياته شعور بالأمن والطمأنينة والمحبة اتجاه الزبائن لبعضهم البعض . وعلى سبيل المثال نجد الشاب الوسيم المهندس أبو عدي وأثناء اللعب يعاكس من حوله أو على طاولة أخرى بكلمات يرد عليها الآخرين بالمثل ، ولكنها تدل على المحبة والمرح ومحاولة التخلص من الشوائب النفسية ، هذا أبو عدي (عراب الشدة) وزعيمها ويكون بالمقابل الشاب الودود رامي صاحب محلات خضار وفواكه وصاحب النفس الطيبة وأثناء اللعب ينهض لسيارته ويرجع حاملاً بيده عشاءً سريعاً من اللبنة والبندورة ، ويضعها على الطاولة وتمتد أيادي اللاعبين ويأخذ كل منهم نصيبه وكأنهم لا يريدون العشاء في البيت . ببساطة هذا السلوك يدل على نفسيات أصحابه الجميلة بعيداً عن الحقد والكراهية . ونجد أيضا أبو سليم رجل متزن في وسط العمر ،لا يعرف الزعل أو الغضب ولكن مشاركاً في مناكفة من يجلسون معه ، وأبو العبد بائع الخضار المتجول يلعب بقوة وتوتر ، ويفرح كثيراً حين يفوز ولو خسر فلا زعل أبداً ، وأما عامر الابن المدلل وهو أصغرهم سناً يلتهي بأرجيلته ولازم العامل هو الذي يشغلها له ونفسيته جميلة ، والشخص الانيق حسين الحلاق ابن أبو حسين كلما أراه أتذكر والده رحمة الله عليه ومن الرعيل القديم الأستاذ أحمد مدرس اللغة الانجليزية أصبح جزءاً من تراث هذا المقهى وأما أبو وديع صاحب المقهى تجده يتجول بين الموجودين بروح مرحة ومداعبة لطيفة ليطمئن على أداء قهوته . تمنيت أن تكون هذا التماثل والتوافق بين دولنا العربية تحقيق مفهوم الوحدة والقومية ولا يعرفون بعضهم إلا في اجتماعات مجلس الجامعة العربية (الرجل الضعيف) وحتى قراراتهم اتجاه قضيتنا الأساسية الفلسطينية لا تتعدى إلى الشجب والاستنكار . لماذا لا تكون قلوبهم على بعض في السراء والضراء وحتى في المواقف الدولية منهم من يؤيد ومنهم من يشجب ومنهم من يصمت ، فإلى متى ستبقى هكذا ؟ لكن سؤال لماذا نجد أيضاً فريق من الزبائن من ثلاثة أو أربعة أفراد يجلسون بدون شرب الأرجيلة ويتحدثون بينهم عن واقع الحياة . ما هو الدافع لهذا السلوك الثقافي في المقهى ؟ أهو الهروب من البيت ؟ أم التفريغ النفسي؟ أم التخلص من الضغوطات التي أوجدتها الجائحة كورونا. أم أن هنالك ضغوط فوقية نفسية لا يستطيعون تحملها فيتخرجون حتى يتم اشغال عقولهم بأمور أخرى ومن ثقافة أخرى . مجتمعنا الأردني مجتمع مثقف ولدى أبنائه القدرة على الابداع والابتكار وتغيير سلوكنا إلى سلوك حضاري نقي يتماشى مع قيمنا الاجتماعية . فأين تكمن المشكلة ؟هل هي في الظروف القاهرة أم في عقولنا ؟ أم في الضغوطات التي تلازمنا طيلة الوقت . ان دور مثقفنا أصبح ضعيفاً يعجز عن التغيير والتقدير والنقد وما عليه إلا أن يأخذ كتاباته ويجلس بجانب إحدى جداول المياه مساءً ويستمع إلى نقيق الضفادع . هدفي من هذه المقالة لتبيان واقعية ما يحدث كعينة في هذا المجتمع ومعرفة مواطن القوة والضعف وحتى تستطيع معرفة الخلل وأن يقوم أصحاب القرار بمعالجته أو التخفيف من هذه المشاكل التي تواجه المواطن ومحاولة تخليصه من الصفيح الساخن الذي أحرق جسده وتفكيره .