د. منذر الحوارات
ا تقتصر الأصوات في غزة على القنابل والصواريخ وأصوات انهيار وسقوط العمارات ولا على أصوات العويل والبكاء على من ارتقوا بسبب هذا العدوان بل يتجاوز الأمر ذلك، فهناك أصوات غير مألوفة باتت تُسمع بوضوح بسبب ما تقوم به دولة الاحتلال من حصار خانق يطال الجميع، إنها أصوات قرقعة الأمعاء الخاوية والتي أدى الحصار إلى حرمان أصحابها من كل مقومات واحتياجات البشر اللازمة للبقاء، حيث لا يزال صدى تصريحات يوآف غالانت العنصرية يتردد صداه في كل مكان من غزة عندما قال بالحرف (إنه لن تكون هناك كهرباء وغذاء ووقود، كل شيء مغلق، نحن نحارب حيوانات بشرية ونحن نتصرف وفقاً لذلك) هذا القول وحده يكفي ليفسر حرب الإبادة الجماعية التي تشنّها دولة الاحتلال على سكان القطاع.
لكن ما يحدث ليس ابن هذه اللحظة، بل تشير الدلائل إلى أنها إستراتيجية إسرائيلية معدة منذ العام 2008 زمن حكومة إيهود أولمرت، أطلق عليها خطة (الخطوط الحمراء) كانت تستهدف تحديد ما هو الممنوع والمسموح إدخاله إلى القطاع بعد سيطرة حماس عليه، تم نشر هذا التقرير في صحيفة هآرتس في العام 2012 وهو عبارة عن صيغة معقدة تعتمد على حساب الحد الأدنى للسعرات الحرارية اللازمة بحيث يتم تجنب الدخول في مرحلة المجاعة الكلية، وبموجبها تم حساب الأرقام الأسبوعية والشهرية من السعرات الحرارية اللازمة لكل فرد وضربها بعدد سكان غزة في ذلك الوقت 1.4 مليون، وبناء عليها يحسب عدد الشاحنات المسموح بدخولها، وفي حينها وحسب تلك الوثيقة تم السماح بـ 170 شاحنة خُصم منها الإنتاج المحلي وكان في وقتها 68 شاحنة، واحتياجات الأطفال وكان حاصل المسموح به 101.8 شاحنة، لكن نجحت حماس في حينها من التغلب على هذا الحصار بحفر الأنفاق والتي لم تكن غايتها عسكرية فقط بل كانت واحدة من أدوات البقاء، نفس الخطة السابقة تطبقها دولة الاحتلال الآن في حربها على غزة وتعرفها بالحد الأدنى للسعرات الحرارية والبالغ 2279 سعرا، لنتخيل أنه في بداية العدوان لم تسمح دولة الاحتلال سوى بـ20 شاحنة يومياً من أصل 500 شاحنة، وبسبب الضغوط الدولية تم زيادتها لكنها لا تزال تراوح دون سقف الحد الأدنى من الحاجة اليومية.
لقد مارست أغلب الأنظمة الفاشية في العالم القديم والحديث الحرب بالتجويع على المدنيين ابتداء من هتلر في العصر الحديث وليس انتهاء به، لكن لم يخطر ببال أحد من أولئك أن يطبق حمية قسرية على السكان، بينما إسرائيل تفعلها في سابقة تاريخية لا أعتقد أنها مورست قبل ذلك، إنه الإذلال بالجوع عند حدّ الكفاف وعدم الموت، كل هذا يحدث بينما تزود الولايات المتحدة دولة الاحتلال بالذخائر لتكمل مهمتها في إبادة هذا الشعب، في حين يتشدق نتنياهو بأن هذه الحرب هي حرب العالم الحرّ مع البرابرة ويؤيده في ذلك الرئيس بايدن ويمده بوسائل الدمار بما لم يخطر على بال، هذه إذاً هي أدوات العالم الحرّ القتل بالتجويع والقتل بالتدمير بأحدث التقنيات، بينما لا يحق لشعب أُغتصبت أرضه أن يقاوم مُحتله وإن فعل ذلك يصبح إرهابياً والمغتصِب حمامة للسلام، هذا المنطق المقلوب هو ما يعاملنا به العالم الحرّ ويطلب منا أن نؤيده، في الأثناء مطلوب من أهل غزة أن يمارسوا حمية جماعية مفروضة بالقمع والصواريخ، للعذاب جوعاً وليس لغاية صحية، طبعاً هذا العذاب الجماعي يشكل أكبر حمية غذائية في التاريخ، ومع ذلك لا يُظهر الغزيون أي إشارة للتراجع أو الانهزام، إنهم صامدون في أماكنهم بل إنهم يهزمون الاحتلال بصمتهم وصبرهم وبصيرتهم.
"الغد"