سمير النابلسي
في التجارب الوطنية الناضجة، لا يقاس ثقل الرجال بعدد المواقع التي شغلوها فقط، بل بقدرتهم على الاستمرار في خدمة الدولة بعد مغادرتهم دوائر القرار. فالمسؤولية في معناها العميق، لا تتوقف بانتهاء التكليف الرسمي، بل تبدأ أحيانًا لحظة الخروج من المنصب، حين يختبر صدق الانتماء بعيدا عن الصلاحيات والامتيازات.
من هذا المنطلق، يمكن فهم مبادرة الدكتور عوض خليفات بوصفها تعبيرا عن وعي متقدم بمفهوم الخدمة العامة، حيث يتحول الانتماء من حالة مرتبطة بالوظيفة إلى ممارسة دائمة نابعة من القناعة. فهذه المبادرة لم تكن حدثا عابرا أو استجابة ظرفية، بل مسارا وطنيا مستمرا امتد لأكثر من عام ونصف، وبلغ اللقاء الحادي والثلاثين، متنقلا بين مختلف المناطق، وجامعا أطيافا واسعة من الفعاليات السياسية والعشائرية والمجتمعية، بما يعكس اتساع القاعدة الوطنية التي خاطبتها، وعمق الرهان على الحوار المباشر بوصفه أداة لتعزيز التماسك الداخلي.
ما يمنح هذا النموذج قيمته أنه يؤكد أن الفعل الوطني الحقيقي لا يحتاج إلى مظلة سلطة كي يكون مؤثرا. فحين توظّف الخبرة المتراكمة في خدمة الاستقرار والصالح العام دون انتظار مقابل، يتحول العمل العام إلى رسالة أخلاقية قبل أن يكون نشاطا سياسيا. وفي الحالة الأردنية، حيث تتقاطع التحديات الداخلية مع تحولات إقليمية ضاغطة، تكتسب مثل هذه المبادرات أهميتها من كونها تعمل من موقع الإسناد للدولة لا من موقع المنافسة، ومن منطق التكامل مع المؤسسات لا الاستعراض خارجها.
وتعكس المبادرة، في بنيتها ومضامينها، التصورات الملكية لعمليات الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي، من حيث التركيز على التدرج، وتعزيز المشاركة، وتوسيع قاعدة الثقة بين الدولة والمجتمع، وربط الاستقرار بالإصلاح المتوازن لا بالقفز في المجهول. فهي لا تطرح بدائل عن المسار الرسمي، بل تتحرك في الفضاء نفسه الذي تؤكد عليه الرؤية الملكية: إصلاح يحافظ على منعة الدولة، ويعزز كفاءة الاقتصاد، ويستند إلى مجتمع متماسك وقادر على التكيف مع التحولات.
وفي هذا السياق، تأتي المبادرة كترجمة عملية لفكرة الالتفاف الواعي حول القيادة الهاشمية، لا بوصفه شعارا سياسيا، بل خيارا وطنيا راسخا في إدارة المراحل الصعبة. فقد أكدت لقاءاتها المتتالية أن النهج القيادي الذي يجسده جلالة الملك عبد الله الثاني يقوم على إدارة التوازنات الدقيقة، وحماية الاستقرار الداخلي، ودفع مسارات التحديث والإصلاح في آن واحد. وفي الوقت ذاته، عكست المبادرة إيمانا باستمرارية هذه المؤسسية من خلال البعد المستقبلي الذي تمثله نظرة سمو الأمير الحسين بن عبد الله الثاني، بما تحمله من طاقة شبابية ورؤية تحديثية تعزز ثقة الأجيال القادمة بالدولة ومسارها الإصلاحي.
ولا تنفصل هذه الرؤية عن الثوابت الوطنية الكبرى، وفي مقدمتها أن الأردن والقضية الفلسطينية في خانة واحدة، لا سياسيا فحسب، بل أخلاقيا وتاريخيا. فقد رسخت المبادرة، عبر مسارها الطويل، فهما واضحا بأن الوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية في القدس ليست موقفا طارئا أو ورقة سياسية، بل أحد أسس الدولة الأردنية وهويتها ودورها الإقليمي، وجزء لا يتجزأ من العقد الوطني الذي يربط الشعب بقيادته. ومن هنا، جاء الخطاب المرتبط بفلسطين والمقدسات خطابا متزنا، يرفض المزايدات، ويؤكد الالتزام الثابت ضمن إطار الدولة ومؤسساتها.
إن المبادرات التي تنشأ خارج الإطار الرسمي، حين تكون منضبطة ومتصلة بثوابت الدولة، تمتلك قدرة خاصة على تعزيز الثقة بين المجتمع والدولة، لأنها تنبع من الإرادة الحرة لا من متطلبات الموقع. وهي، بهذا المعنى، تسهم في توسيع مفهوم المسؤولية الوطنية، بحيث لا يبقى حكرا على المؤسسات، بل يتحول إلى ثقافة عامة وسلوك جماعي يعزز مناعة الدولة ويقوي نسيجها الاجتماعي.
إن الحاجة اليوم ليست إلى أصوات مرتفعة أو شعارات عابرة، بل إلى نماذج عملية تؤكد أن خدمة الوطن لا تنتهي بتغير المواقع، وأن الانتماء لا يقاس بالقرب من الكرسي، بل بالقدرة على البقاء في دائرة الفعل الإيجابي. فالدولة ليست لحظة سياسية، بل مسار طويل، والمبادرات الجادة هي تلك التي تفهم هذا المعنى وتعمل في سياقه.
هكذا تقرأ مبادرة الدكتور عوض خليفات: مسار وطني مستمر، عبر المجتمع بكل تنوعه، وعكس التصورات الملكية للإصلاح الشامل، ورسخ خطابا مسؤولا، وأكد أن الانتماء الحقيقي هو ذاك الذي يستمر حين تنتهي الألقاب، ويبقى حين تتغير الظروف، لأن الوطن في النهاية هو الموقع الذي لا يغادر، والمسؤولية التي لا تسقط بالتقادم.
حفظ الله الأردن وطنا، وشعبا، وقيادة حكيمة.




