شريط الأخبار
الجمارك تدعو إلى الاستفادة من الفترة المتبقية لتطبيق القرارات الخاصة بالاعفاءات كتائب القسام تنعى "أبو عبيدة" ومحمد السنوار و ثلة من قادتها العسكريين مجلس النواب يُقر بالأغلبية "مُعدل الأوقاف" البرلمان العراقي ينتخب هيبت الحلبوسي رئيسا له المياه والري: فيضان سد وادي شعيب خلال ساعات السير تدعو المواطنين لتوخّي أقصى درجات الحيطة والحذر وترك مسافات الأمان وتجنّب السرعات السفير الصيني يؤكد الشراكة الاستراتيجية بين الأردن والصين وزير الاستثمار: نجاح المناطق التنموية يُقاس بأثرها في التنمية ودعم التشغيل في المحافظات إنهيارات صخرية تغلق وتعيق طرقا في الأردن الأردن والمغرب يؤكدان ضرورة تنفيذ كامل بنود وقف إطلاق النار في غزة وإيصال المساعدات دون عوائق ترامب ونتنياهو يناقشان اليوم المرحلة التالية من خطة غزة من اجل اهلنا في غزة : الملك يجري اكثر من 500 زيارة عمل ولقاء واتصال هاتفي لوقف حرب الابادة الحكومة تبحث مطالب تجار المواد الغذائية استعدادا لشهر رمضان تسارع التحول الرقمي بوزارة العدل وتوسيع بدائل العقوبات خلال 2025 الخلايلة: أعضاء في مجلس الأوقاف يرفضون الحصول على مكافآت المالية: 7.6 مليار دينار الإيرادات المحلية خلال 10 أشهر من سيلقيه؟.. كتائب القسام تعلن عن خطاب مرتقب لها عصر الإثنين مطالب نيابية بالاكتفاء بالغرامات المالية الرادعة دون حجز المركبات النائب أبو الرب يثمن موقف الملك الرافض لإرسال قوات أردنية إلى غزة النائبة المحسيري تحذر من المساس بشؤون الإفتاء وتؤكد أن الإسلام منظومة لا تقبل التجزئة

شقمان يكتب : بين السقوط والنهضة: العرب في امتحان الوجود

شقمان يكتب : تأثير مركز القرار على مستقبل الشرق الأوسط والعالم العربي
الكابتن أسامة شقمان
يشهد العالم العربي في المرحلة الممتدة بين 2023 و2026 تحوّلات غير مسبوقة، لا باعتبارها سلسلة أزمات منفصلة، بل كـ بنية تاريخية مكتملة العناصر تشكل ما يمكن تسميته بـ الامتحان الوجودي العربي. هذا الامتحان لا يقتصر على نتائج سياسية آنية أو اضطرابات أمنية ظرفية، بل يطال الأسس العميقة للعقد الاجتماعي، وبنية الدولة الوطنية، ووظيفة السلطة، وموقع الشعوب، وعلاقة المنطقة بالنظام الدولي.
إن ما نراه ليس مجرد انهيار متفرق، بل عملية إعادة تشكيل قاسية تنتج واقعًا جديدًا، يتأرجح بين احتمالين متعاكسين: السقوط إلى قاع التفكك أو النهوض باتجاه مشروع نهضة متعددة المستويات.
تستند هذه الدراسة إلى فرضية أن ما يحدث ليس فوضى عشوائية، بل مرحلة انتقالية تاريخية شديدة الازدحام بالعوامل، يمكن قراءتها وفق ثلاثة مستويات مترابطة:
1- المستوى البنيوي الداخلي: انكشاف هشاشة الدولة الوطنية بعد عقود من مركزية السلطة وإقصاء المجتمع.
2- المستوى الإقليمي: تشظّي القرار العربي بين محاور متنافسة بدل مشروع مشترك.
3- المستوى الدولي: تحوّل الشرق الأوسط من منطقة نفوذ ثابت إلى ساحة إعادة توزيع للمصالح بين القوى الكبرى.
وعليه، فالمنطقة لا تقف أمام أزمة سياسية مؤقتة، بل أمام سؤال مصيري:
هل نحن أمام نهاية مرحلة تاريخية أم بداية أخرى؟ وهل سيمتلك العرب أدوات الفعل قبل أن يفقدوا أدوات الوجود؟
1- منطق التحليل: بين "الاحتراق" و"الولادة"
في العلوم السياسية، لا يُقاس التحول التاريخي بنتائج فورية، بل بترتيب العوامل التي تتجمع مثل حلقات متداخلة. من هنا يَظهر مفهوم الاحتراق السياسي (Political Burning) باعتباره مرحلة انهيار البنى التقليدية للدولة، مقابل مفهوم الولادة التاريخية (Historical Rebirth) بوصفه محاولة لإعادة بناء مشروع الدولة على أسس جديدة.
يتحرك العالم العربي اليوم بين هذين القطبين:
- الاحتراق كواقع معاش (نزاعات، انهيارات، تفكك سلطوي)
- الولادة كاحتمال معلق (إعادة تعريف الهوية، السيادة، الأمن، والعلاقة مع العالم)
وهذا التردد بين قطبين لا ينتج خطًا مستقيمًا، بل مسارًا متعرجًا، يجعل من 2026 نقطة اختبار لإعادة صياغة موقع العرب في النظام الدولي الصاعد.
2- الخلفية التاريخية للمرحلة الراهنة
لا يمكن فهم اللحظة العربية الحالية دون ربطها بتراكم تاريخي بدأ مع:
-الاستقلالات العربية المتعجلة منتصف القرن العشرين
-اقتصاد ريعي بلا مشروع تنموي
-نخب حاكمة تعلو على الدولة نفسها
-توازنات الحرب الباردة التي أعادت تشكيل الخرائط
-زلزال 2011 الذي فتح المجال أمام انهيار النموذج السياسي القديم
-حروب الوكالة وصراعات المحاور التي ملأت الفراغ بعد غياب المشروع الجامع
هذه الخطوط ليست مجرد أحداث، بل مقدمات لنموذج زمني جديد تنهار فيه وظائف الدولة التقليدية (الأمن، التعليم، الرعاية، السيادة) دون وجود نموذج بديل جاهز، مما جعل المنطقة منطقة اختبار عالمي لا مجرد ضحية له.
3- إشكالية اللغة العربية السياسية
أحد أخطر مظاهر الأزمة أن الخطاب السياسي العربي يعيش في مسافة لغوية مضلِّلة:
-مصطلحات كـ الشرعية، المقاومة، الدولة، الأمن القومي تُستخدم بلا تعريف موحد.
-تتوارث الحكومات والشعوب قاموسًا من الشعارات التي لا تشكل سياسات.
-يتحول الواقع إلى "بيانات" والخسائر إلى "مواقف" والقرارات إلى "تصريحات".
هنا تتجلى المفارقة:
لا أزمة في اللغة فحسب، بل في القدرة على تحويل اللغة إلى فعل سياسي منتج.
4- موقع فلسطين في بنية الامتحان الوجودي
ليس من قبيل الترتيب العابر أن تبدأ هذه الدراسة من فلسطين، وغزة تحديدًا.
ذلك لأن فلسطين ليست حدثًا منفصلاً، بل مركزًا كاشفًا لبنية النظام الدولي. فالحرب على غزة لا تختبر فلسطين وحدها، بل تختبر:
-أخلاق الغرب
-صلاحية القانون الدولي
-صدقية الخطاب العربي
-قدرة النظام الإقليمي على حماية الذات
ولذلك، فإن فلسطين ليست ملفًا، بل مرآة. وكل قراءة للواقع العربي تتجاهلها ناقصة منهجيًا وعمياء تحليليًا.
5- إعادة تعريف السؤال المركزي
السؤال لم يعد: لماذا وصل العرب إلى هنا؟
هذا سؤال تاريخي قد تمت الإجابة عنه مرارًا.
السؤال الحقيقي اليوم هو:
ما الذي يجب أن يتغير في بنية الدولة، والعقد الاجتماعي، والقرار السياسي، كي لا يعيد التاريخ إنتاج الكارثة نفسها كل عشر سنوات؟
هذا البحث لا يسعى إلى تقديم إجابات نهائية، بل إلى طرح الأسئلة الصحيحة قبل الانخراط في وهم الحلول السريعة.
6- فرضية الانتقال
تقوم الدراسة على فرضية أساسية:
العالم العربي لا ينهار بالكامل، ولا ينهض بالكامل، بل يتحرك داخل منطقة انتقالية رمادية؛ من يقرأها بوعي سيولد من جديد، ومن يهملها سيسقط خارج التاريخ.
الخلاصة التأسيسية للمقدمة
نحن أمام مرحلة لا تُقرأ بالأمنيات أو العاطفة أو البيانات، بل بالأرقام والخرائط والوعي.
وإذا كان العنوان "بين السقوط والنهضة" يبدو عنوانًا دراميًا، فإنه في الحقيقة تشخيص علمي لحالة انتقالية غير مستقرة، يواجه فيها العرب امتحان وجود لا امتحان نفوذ.
هذه الورقة/البحث ليست رواية عن الألم العربي، بل دعوة لاستعادة القدرة على الفعل.
فالنهضة ليست حلمًا… بل قرارًا.
1- غزة: الجرح الذي يفضح المنظومة الدولية
تُعدّ غزة اليوم اللقاء الأكثر وضوحًا بين السياسة والحرمان الأخلاقي في السياق العربي الحديث؛ فقد تحولت من مدينة مُكبوتة تحت الاحتلال إلى ساحة مفتوحة للانتهاكات الإنسانية والسياسية التي تُحدّد مستقبل المنطقة، وتكشف عن هشاشة النظام الدولي في حماية حقوق الشعوب. في هذه الفقرة، سنحلّل غزة ليس كــ"حدث" منفصل فحسب، بل كـ"نقطة مركزية" لفهم التحولات الإقليمية والدولية، وموضع اختبار حيّ لـاهداف ومبادئ القانون الدولي وفعالية المنظومات الإنسانية.
أ. العمق الإنساني والبيانات الميدانية
منذ اندلاع الحرب على غزة في 7 أكتوبر 2023، شهد القطاع أحد أشرس النزاعات في التاريخ المعاصر من حيث الأثر المدني الإنساني. البيانات الرسمية - رغم صعوبات التحقق في ظروف النزاع - تشير إلى أعداد ضخمة من الضحايا المدنيين:
-تقارير صحية محلية وأمم متحدة تُقدّر أن عشرات آلاف الفلسطينيين قُتلوا وأصيبوا بحلول منتصف عام 2025، بما في ذلك أعداد كبيرة من النساء والأطفال.
-تحليل شامل لأرقام وزارة الصحة في غزة يشير إلى أن أكثر من 70,000 شخص قُتلوا وأن نحو 169,000 آخرين أصيبوا بحلول أكتوبر 2025 منذ بداية الحرب.
-منظمة الأمم المتحدة ومنظمات أخرى رصدت مستويات تفكك للبنية الاجتماعية والخدمات العامة، مع نقص حاد في الغذاء والماء والرعاية الصحية، ومخاطر مستمرة على الحياة اليومية لسكان القطاع.
هذه الأرقام هي أكثر من إحصاءات تُقرأ في شكل جداول؛ فهي تعكس حجم التفكك المجتمعي الذي يتجاوز الكارثة إلى مستوى تآكل بنيوي في المجتمع نفسه. فحين يختفي النظام الصحي والبيئة التعليمية ويصبح الوصول إلى الغذاء والمأوى معركة يومية، يفقد المجتمع القدرة على الحفاظ على وجوده الاجتماعي والثقافي.
ب. التدمير الهيكلي والاجتماعي
أثر النزاع لم يتوقف عند الخسائر البشرية فقط؛ بل امتد ليشمل نسيج الحياة الاقتصادية والاجتماعية والبنائية في غزة.
-مدارس ومرافق تعليمية تعرضت للتدمير، مما يخلق جيلًا بخطر فقدان التعليم المنتظم تمامًا نتيجة الحرب وسقوط المنشآت التعليمية.
-الكوارث الطبيعية، مثل هطول الأمطار الشتوية، قلبت المخيمات والملاجئ إلى أماكن خطرة على الحياة الإنسانية، ما زاد من معاناة السكان في ظل بنية تحتية هشة.
-البنية التحتية الصحية والتعليمية والثقافية ازدادت انهيارًا مع تزايد الضغط الحياتي، مما يفضي إلى خسائر في الذاكرة الثقافية والهوية الجمعية للسكان.
بالتالي، لم تعد الحرب في غزة مجرد سلسلة من الاشتباكات العسكرية، بل عملية تدمير شامل تضرب الأساس المجتمعي الذي يبني الحياة اليومية، وتمنع التعافي الطبيعي في كل بعد إنساني.
ج. الفقر والحصار وفقدان القدرة على البقاء
بعد سنوات من الحصار المستمر والسياسات التي قيدت الحركة والوصول إلى الموارد الأساسية، واجه سكان غزة معدلات حادة من الجوع والفقر.
وفق بيانات تقارير التصنيف الغذائي، فقد وصل الوضع في فترات معينة إلى مستويات تُصنّف جيمًا "كارثية" من انعدام الأمن الغذائي، مع اعتماد كامل للسكان تقريبًا على المساعدات الخارجية بعد أن دُمّرت وسائل الإنتاج المحلية.
هذه الظروف لا تعكس فقط الحرب كعمل عسكري: بل تُظهر استخدام السياسات الاقتصادية كأداة قسرية تُمكن من فرض سيطرة أكبر على السكان عبر التحكم في وصول الغذاء والماء والخدمات.
د. القانون الدولي واتهامات بانتهاكات جسيمة
المشهد في غزة أثار تساؤلات جدّية حول التزام القانون الدولي الإنساني.
تقارير مستقلة للأمم المتحدة خلُصت إلى أن الأفعال التي ارتُكبت في غزة قد ترتّب عليها انتهاكات جسيمة للقانون الدولي، بما في ذلك أفعال يمكن اعتبارها جرائم حرب أو ترقى إلى مستوى الإبادة الجماعية.
في الوقت نفسه، ظهرت ردود فعل مضادة من بعض الجهات القانونية والسياسية التي تنتقد هذه التوصيفات، معتبرة أن التقارير تعتمد على معطيات غير متوازنة أو تُسيّس العملية القانونية.
هذه التناقضات بين التقييمات القانونية تظهر انقسامات في النظام الدولي نفسه حول كيفية التعامل مع ما يحدث في غزة. كما تُبرز محدودية الأجهزة الدولية في فرض تنفيذ التوصيات أو قرارات المحاكم الدولية، خاصة عندما تتصادم مع المصالح الجيوسياسية الكبرى.
ه. غزة كاختبار أخلاقي عالمي
قد تكون غزة في 2025 أكثر من مجرد ساحة نزاع محلية؛ بل فضيحة أخلاقية أمام الضمير الدولي.
بينما تُصرّ بعض الحكومات على وصف ما يجري بعبارات قانونية مضبوطة أو على أنها عمليات تهدف إلى "أهداف أمنية"، تُجهر منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الإنسانية في تقاريرها بأن ما يحدث يرقى إلى انتهاكات متسقة وواسعة النطاق بحق السكان المدنيين في غزة.
وبينما تتظاهر شعوب في العديد من العواصم الغربية تضامنًا مع المدنيين الفلسطينيين، فإن السياسات الرسمية للحكومات غالبًا ما تبقى محكومة بقيود المصالح الجيوسياسية والتحالفات الاستراتيجية، بدل الالتزام الصارم بمبادئ القانون الدولي والإنساني.
و. الانطباع العام والنتائج الفرعية
تحليل الواقع في غزة يشير إلى عدة نتائج مفصلية يمكن ربطها بمحور البحث العام:
-غزة ليست فقط نزاعًا مسلحًا، بل اختبارًا لبنية القانون الدولي:
هي منصة لرصد فعالية المنظومة الدولية في حماية حقوق المدنيين خلال النزاعات المسلحة.
-العدوان والتدمير البنيوي أسفرا عن فقدان موارد الحياة الأساسية:
الصحة، الغذاء، الماء، التعليم، والثقافة كلها لفقدان الوظائف الحيوية لمجتمعٍ كامل.
-الخلافات الدولية حول تفسير ما يحدث تظهر انقسامًا أعمق في النظام الدولي:
بين المبادئ والقوة، وبين السياسة والقانون، ما يجعل غزة ليست فقط ساحة حرب بل ميدان صراع حول المعنى الأخلاقي للسيادة والهوية الدولية.
خاتمة تحليلية للفقرة
غزة بهذا المعنى تتجاوز كونها "قضية فلسطينية" إلى أن تكون مؤشرًا مركزيًا في فهم ما إذا كان العالم العربي قادرًا على إعادة تأسيس دوره كفاعل في التاريخ، وليس مجرد ساحة انتظار لموازين القوى الخارجية.
إنها ليست مأساة محلية فحسب، بل اختبار لمدى قدرة المجتمع الدولي والنظام العربي نفسه على مواجهة واقع إنساني يتحدى الأعراف القانونية والسياسية، ويمحو ببطء ما تبقى من البنى المجتمعية الأساسية.
2- الضفة الغربية… زمن ممتد تحت الاحتلال
تُعد الضفة الغربية واحدة من أكثر البيئات السياسية والإنسانية تعقيدًا في النزاع العربي–الإسرائيلي، فهي ليست ساحة صراع عابرة، بل هيكلية احتلال متواصلة منذ أكثر من نصف قرن. في هذا التحليل الأكاديمي، سنتناول الضفة كمثال مركزي على كيفية ترسيخ احتلال طويل الأمد هو امتداد للسياسات الاستعمارية الحديثة التي لا تقتصر على السيطرة العسكرية، بل تشمل الاستيطان والتحكم الديمغرافي وتقييد الحركة وفرض السيطرة على الأرض والموارد، مما يجعل من الضفة نموذجًا مرتبطًا بشكل وثيق بمدى قدرة الفلسطينيين على ممارسة حقهم في تقرير المصير.
أ. الإطار التاريخي والسياسي للاحتلال
منذ عام 1967، بعد حرب الأيام الستة التي شهدت احتلال إسرائيل للضفة الغربية وشرقي القدس، باتت الضفة تحت إدارة عسكرية مباشرة تُعرَّف في القانون الدولي بأنها احتلال — وهو وضع اعتبرته المحاكم الدولية إطالة غير قانونية للسيطرة على شعب آخر.
الاحتلال هنا لا يقتصر على وجود قوات عسكرية؛ بل يشمل أيضًا هيمنة سياسية كاملة على الموارد والمياه والأراضي، مع فرض نظام إداري وأمني معقد يعتمد على القيود والمراقبة، وهي حالة أعمق وأطول من أي احتلال مماثل في التاريخ الحديث.
وقد تم تصميم نظام السيطرة هذا ليكون دائمًا وليس مؤقّتًا، إذ لم تعُد الضفة مجرد "أرض محتلة" تنتظر تسوية، بل صارت بنية مهيكلة للتحكم الديمغرافي وتجزئة الأراضي والسيطرة على الموارد الطبيعية والفعل الاجتماعي.
ب. الاستيطان: أداة لتحويل الاحتلال إلى واقع دائم
الاستيطان في الضفة الغربية يُمثّل أحد أبرز ملامح هذا النظام. فبينما تعد جميع المستوطنات في الأراضي المحتلة غير قانونية بموجب القانون الدولي، فإن عددها ووتيرة توسّعها قد تصاعد بشكل غير مسبوق خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا في ظل الحكومة اليمينية الإسرائيلية الحالية التي أضفت دعمًا رسميًا على مشاريع الاستيطان.
في عام 2025 وحده، تمت الموافقة على بناء عشرات الآلاف من الوحدات السكنية الاستيطانية، وهو رقم قياسي يعكس تسارعًا في توسيع المستوطنات على الأرض، بهدف خلق وقائع ديموغرافية وسياسية تعمّق الانقسام الجغرافي والديمغرافي.
يُظهر ذلك أن الاستيطان لم يعد مجرد "سياسة إسكان" بل تحول إلى أداة استراتيجية لإعادة رسم الواقع السياسي والحدودي في الضفة، إذ تُحاط المستوطنات بمناطق واسعة من الأراضي الفلسطينية، وتُجزّأ الضفة إلى جيوب منعزلة لا يمكن أن تشكل في مجموعها دولة فلسطينية قابلة للحياة.
ج. عنف المستوطنين وسياسة الأرض المهيمنة
لم يتوقف الاحتلال عند بناء المستوطنات فقط؛ بل تعداه إلى عنف مستوطنين ممنهج بتواطؤ أو حماية ضمنية من الأجهزة الأمنية الإسرائيلية. وفق تقارير الأمم المتحدة، وصل عدد الهجمات التي ينفذها المستوطنون ضد الفلسطينيين إلى مستويات قياسية في 2025، بمتوسط يومي يشير إلى استمرار دورة العنف اليومية، ما يزيد من حالة التوتر الاجتماعي ويعرقل الحياة الطبيعية للسكان.
بحسب بيانات الأمم المتحدة، تم توثيق مئات الهجمات خلال أشهر محددة، مع تسجيل إصابات وخسائر مادية واجتماعية واسعة، فيما لا تُحال إلا نسبة ضئيلة من هذه الحالات إلى المحاكمة أو المساءلة.
هذه الظاهرة لا تُظهر فقط غياب سيادة القانون والحماية للفلسطينيين، بل تُبرز أيضًا وجودًا مؤسسيًا لعنف غير معاقب، ما يجعل من الضفة مساحة لا تعرف الاستقرار الاجتماعي أو الاقتصادي، بل تشهد ترسيخًا للممارسات القهرية كأسلوب يومي للحياة.
د. قيود الحركة والاقتصاد المتضعضع
جزء آخر من بنية السيطرة على الضفة الغربية يكمن في قيود الحركة والوصول التي تُفرض على الفلسطينيين، ما يعوق الاقتصاد والحياة اليومية ويعمّق التبعية. ففي الضفة، تقع عشرات الحواجز والمعابر التي تقيّد حرية التنقل بين المدن والقرى، وقد وصل عدد العوائق والعقبات على الطرق الرئيسية إلى مئات، بعضها دائم، وبعضها يظهر بشكل مفاجئ، مما يعيق العمل والتعليم والوصول إلى الخدمات الأساسية.
هذه القيود لا تؤثر فقط على حرية الحركة، بل تمس بشكل مباشر الحق في العمل والزراعة والتعليم والرعاية الصحية، وهو ما يجعل الحياة الاقتصادية صعبة للغاية، ويُزيد من معدلات الفقر والبطالة، ويُضعف البنية المجتمعية للمعيشة المستقلة.
هـ. التغير الديمغرافي والسيطرة على الأرض
وفق بيانات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، يعيش في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية مئات الآلاف من المستوطنين الإسرائيليين في مستوطنات معترف بها أو غير معترف بها ضمن القانون الدولي، في حين يتعرض الفلسطينيون لهجمات وإجراءات تقيّد حقوقهم.
الوجود الاستيطاني المتزايد يُشكّل تهديدًا مباشرًا لمبدأ تقرير المصير، لأنه لا يقتصر على البناء السكني فقط، بل على الهيمنة على المزارع والمياه والمسارات والطرق الحيوية، ما يقلّص المساحات الفلسطينية إلى كيانات متفرّقة ومعزولة.
علاوة على ذلك، هناك مشاريع مثل مخطط E1 الذي يسعى لربط المستوطنات الكبرى بالقدس، ما يؤدي إلى قطع التواصل الجغرافي بين أجزاء الضفة ويضعف أية فرصة واقعية لإنشاء دولة فلسطينية متواصلة جغرافيًا.
و. الانتهاكات القانونية وإنهاء أفق التسوية
على الصعيد القانوني الدولي، تعتبر معظم السياسات الاستيطانية انتهاكًا واضحًا لاتفاقيات جنيف وقرارات الأمم المتحدة، ومنها قرار مجلس الأمن رقم 2334 الذي يدعو إلى وقف جميع الأنشطة الاستيطانية.
وفي الواقع، فإن استمرار هذه العمليات يُظهر فشل آليات القانون الدولي في ضمان التنفيذ أو المساءلة، ما يطرح سؤالًا أوسع حول قدرة المجتمع الدولي على فرض احترام حقوق الشعوب التي تعيش تحت الاحتلال، خصوصًا في ظل ازدواجية التطبيق والمعايير.
ز. الضفة الغربية كصورة للمنعطف العربي
من منظور أوسع، تُعد الضفة الغربية نموذجًا محوريًا لفهم محدودية الحلول السياسية التقليدية في المنطقة. فالتفاوض على الأرض والحقوق لم يحدّ من التوسع الاستيطاني ولا من تدهور حياة الفلسطينيين، بل يبدو أن خطاب التسوية غالبًا ما كان فضفاضًا ويوفر مجالًا لاستمرار الهيمنة بدل قمعها.
في هذا السياق، تُظهر الضفة الغربية بأن الكثير من السياسات التي تُطرح كحلول سياسية تبقى تنفيذًا شكليًا للاتفاقيات بينما الواقع على الأرض يزداد تشدّدًا نحو المزيد من السيطرة والتهويد، ما يضع العالم العربي أمام تحدّي تحوّل الاحتلال من حالة مؤقّتة إلى بنية دائمة.
خلاصة تحليلية للفقرة
تكشف الضفة الغربية عن أن الاحتلال لا يمكن اختزاله في مواجهة عسكرية قصيرة الأمد، بل هو نظام معقد من التحكم الديمغرافي والسياسي والاجتماعي والقانوني، يسعى لتغيير الحقائق على الأرض بطرق ممنهجة تشمل الاستيطان، عنف المستوطنين، قيود الحركة، والتوسع في السيطرة على الأرض والموارد. التعامل مع هذه البنية يتطلب قراءة سياسية شاملة تتجاوز الجدل حول الحقوق والواجبات القانونية إلى تحليل بنيوي للسيادة والتحكّم في الزمن والمصير.
3- لبنان… بين سلاح الداخل وحدود الجنوب
يشكّل لبنان حالة مركّبة في المشهد العربي المعاصر، تتقاطع فيها الأزمة الاقتصادية - المالية غير المسبوقة مع الانقسام السياسي المزمن ووجود فاعل مسلح غير دولتي يمتلك قدرات تفوق أحيانًا قدرات الدولة نفسها. ومن هنا، لا يمكن مقاربة الحالة اللبنانية بوصفها أزمة دولة ضعيفة فحسب، بل بوصفها مثالًا مكثفًا على تآكل مفهوم السيادة الحديثة في فضاء عربي مأزوم؛ حيث تتعايش على الأرض سلطات متوازية: دولة رسمية عاجزة، وقوة مسلّحة مرتبطة بمحور إقليمي، وضغوط دولية وأمنية ترتبط بالحدود الجنوبية مع إسرائيل.
أولًا: دولة على حافة الانهيار البنيوي
منذ انفجار الأزمة المالية عام 2019، دخل لبنان في مسار انهيار اقتصادي وصفه البنك الدولي بأنه من بين أسوأ ثلاث أزمات مالية على مستوى العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر. الانكماش الحاد في الناتج المحلي، والانهيار الهائل في سعر صرف العملة، وما تلاه من تضخم مفرط، أدى إلى تآكل القوة الشرائية لأغلبية اللبنانيين. تقارير البنك الدولي ومنظمات دولية تشير إلى أن الفقر في لبنان أكثر من ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل عقد، ليصل إلى حوالي 44% من السكان في عام 2022، مع تفاوتات حادة بين المناطق، ومع استمرار التدهور لاحقًا.
وتضيف دراسات أخرى أن الانهيار الطاقي – لا سيما أزمة الكهرباء – عمّق من الفقر الطاقي؛ إذ أظهرت دراسة أكاديمية أن نحو 36% من الأسر اللبنانية تعاني من فقر طاقي حاد، وأن 78% من الأسر غير قادرة على الحفاظ على منازلها دافئة، ما يحوّل الخدمات الأساسية إلى رفاهية.
في عام 2025، ما تزال نتائج هذا الانهيار تتجلى في واقع معيشي قاسٍ: الأمم المتحدة تقدّر أن أكثر من 55% من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر، مع توفر الكهرباء لساعات قليلة يوميًا واعتماد شبه كامل على المولدات الخاصة، وانهيار قيمة الرواتب، واستمرار موجات الهجرة خصوصًا بين الكفاءات وأصحاب المهن.
بهذا المعنى، لم تعد الأزمة الاقتصادية مجرد خلل في السياسات المالية والنقدية، بل تحوّلت إلى انهيار في العقد الاجتماعي بين الدولة والمواطن؛ إذ لم تعد الدولة قادرة على أداء وظائفها الأساسية، بينما يتنامى شعور عام بأن المنظومة السياسية–المالية المتحكمة ترفض تحمّل المسؤولية أو الدفع نحو إصلاح حقيقي.
ثانيًا: رئاسة جديدة فوق ركام نظام قديم
سياسيًا، عاش لبنان فراغًا رئاسيًا طويلًا استمر لأكثر من عامين بعد انتهاء ولاية الرئيس السابق في أكتوبر 2022، نتيجة الانقسام الحاد بين الكتل النيابية، وتداخل الحسابات الداخلية بالتجاذبات الإقليمية.
في يناير 2025، انتُخب قائد الجيش، جوزيف عون، رئيسًا للجمهورية، منهياً حالة الفراغ الشللّي، بعد سلسلة جلسات فاشلة ومحاولات تسوية متعاقبة. هذا الانتخاب انعقدت عليه آمال داخلية وخارجية بأن يشكل مدخلًا لإعادة بناء مؤسسات الدولة وفتح الباب أمام إصلاحات تُرضي الشارع اللبناني من جهة، والمؤسسات الدولية - وعلى رأسها صندوق النقد الدولي - من جهة أخرى.
لكن هذه الآمال تصطدم ببنية نظام سياسي طائفي–محاصصي متجذّر، جعل من كل استحقاق رئاسي أو حكومي حقل اختبار لميزان القوى الداخلي والإقليمي. وهكذا، تحوّل انتخاب الرئيس إلى خطوة مهمة لكنها غير كافية بذاتها ما لم تُستتبع بإصلاحات هيكلية في النظام المالي، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي، ومعالجة مسألة الودائع المجمدة، وهي ملفات ما زالت تدور في حلقة مفرغة بين الحكومة والبرلمان والنخب المالية.
في نهاية 2025، أقرّت الحكومة مشروع «قانون الفجوة المالية» لمعالجة الخسائر المقدرة بنحو 70 مليار دولار وتوزيعها بين الدولة والبنك المركزي والمصارف والمودعين، في خطوة مرتبطة بشروط صندوق النقد الدولي. غير أن القانون أثار جدلًا حادًا واعتراضات من المصارف وجمعيات المودعين، وسط مخاوف من تحميل صغار المودعين الجزء الأكبر من الكلفة، ما يعمّق انعدام الثقة بين المجتمع والنظام المالي.
هكذا يجد لبنان نفسه أمام مفارقة سياسية - اقتصادية: رئاسة منتخبة وحكومة ترفع لواء الإصلاح، لكن شبكة المصالح العميقة التي راكمتها عقود من المحاصصة تهدد بإفراغ الإصلاح من مضمونه، لتبقى الدولة في حالة "إدارة أزمة" لا في سياق "إعادة بناء".
ثالثًا: حزب الله… بين خطاب المقاومة ومعادلة الدولة
لا يمكن مقاربة الحالة اللبنانية من دون التوقف مطولًا عند حزب الله، الفاعل المسلّح الأكثر تأثيرًا على مسار الدولة وحدودها. الحزب الذي نشأ في سياق مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في الثمانينيات، تطوّر إلى قوة عسكرية وسياسية كبرى، يمتلك ترسانة صاروخية معتبرة، ويحظى بدعم إقليمي واضح، خصوصًا من إيران، ويمثل أحد أهم أذرع ما يُسمى «محور المقاومة» في المنطقة.
إشكالية حزب الله في السياق اللبناني لا تتعلق فقط بامتلاكه السلاح خارج إطار الدولة، بل بكونه يحتل موقعًا مزدوجًا:
-شريك في السلطة التنفيذية والتشريعية (عبر الحكومة والبرلمان)
-وفاعل عسكري مستقل يحتفظ بقرار الحرب والسلم على الجبهة الجنوبية، وشارك في صراعات خارجية (سوريا وغيرها).
هذا الوضع يخلق معضلة سيادية حادة:
هل يمكن لدولة أن تدير سياستها الخارجية والدفاعية في ظل وجود قوة عسكرية داخلها لا تخضع بالكامل لمؤسساتها الشرعية، بل لخط استراتيجي إقليمي أوسع؟
من جهة، يرى جزء من اللبنانيين والعرب أن سلاح حزب الله شكّل عامل ردع ضد إسرائيل وغطاءً للمقاومة في فترات معينة، ومن جهة أخرى، يرى آخرون أن هذا السلاح تحوّل إلى أداة ضغط داخلية تُستخدم في الصراعات السياسية الداخلية، وتربط مستقبل لبنان بحسابات إقليمية أكبر من حجمه، بما فيها المواجهة مع إسرائيل والملف النووي الإيراني.
رابعًا: الحدود الجنوبية… جبهة معلّقة على خيط رفيع
منذ حرب تموز 2006، عاشت الحدود الجنوبية بين لبنان وإسرائيل حالة من "اللاحرب - اللاسلم"، مع خروقات متقطعة. لكن في أعقاب حرب غزة 2023، وبدء الاشتباكات بين حزب الله وإسرائيل على طول الحدود، دخل المشهد طورًا جديدًا أكثر خطورة.
شهد عام 2024 تصعيدًا وصل إلى حد اجتياح إسرائيلي جديد لجنوب لبنان في أكتوبر 2024، تلاه اتفاق وقف إطلاق نار في نوفمبر من العام نفسه بوساطة دولية، مع ترتيبات تقضي بانسحاب القوات الإسرائيلية وبسط الجيش اللبناني واليونيفيل سلطتهما جنوب نهر الليطاني.
إلا أن العام 2025 شهد استمرارًا للخروقات الإسرائيلية، سواء عبر غارات جوية أو ضربات مسيّرة استهدفت مواقع يشتبه بأنها تابعة لحزب الله في الجنوب، في وقت تتحدث تقارير غربية عن خطة أوسع للضغط باتجاه نزع سلاح الحزب جنوب الليطاني وربما أبعد من ذلك.
في المقابل، يعتبر حزب الله أن أي خطة لنزع سلاحه هي جزء من "مشروع أميركي - إسرائيلي" يستهدف دوره في المعادلة الإقليمية، ويصرّ على أن سلاحه عنصر توازن في مواجهة "التهديد الإسرائيلي".
هذه المعادلة تجعل الجنوب اللبناني جبهة مؤجلة الانفجار، يتداخل فيها المحلي بالإقليمي والدولي:
-إسرائيل تسعى إلى إزالة التهديد الصاروخي من حدودها الشمالية.
-الولايات المتحدة وأوروبا تضغطان باتجاه تهدئة دائمة وحلول أمنية جديدة.
-لبنان الرسمي يحاول تجنب حرب شاملة تفوق قدرته، بينما لا يمتلك السيطرة الكاملة على قرار السلاح.
النتيجة أن الجنوب يتحول إلى ساحة تفاوض بالنار، كل جولة فيها تذكير بأن لبنان محكوم بجبهة لا يغلقها قرار داخلي فقط، بل جدول أعمال إقليمي واسع.
خامسًا: لبنان كمرآة لأزمة الدولة العربية
في ضوء ما سبق، يمكن النظر إلى لبنان كـ مرآة مكبرة لأزمة الدولة في المنطقة العربية:
-دولة ذات نظام سياسي طائفي - محاصصي، عاجزة عن إنتاج قرار وطني جامع.
-اقتصاد منهار مرتبط بنخبة مالية - سياسية متشابكة المصالح.
-فاعل مسلّح داخلي مرتبط بمحور إقليمي، يمتلك قدرة على تعطيل أو فرض خيارات استراتيجية.
-حدود متوترة مع عدو خارجي، تجعل البلد ساحةً دائمة لاحتمالات الحرب.
بهذا المعنى، لا يمكن قراءة لبنان كحالة شاذّة؛ بل كـ نموذج متطرف لما قد تؤول إليه دول أخرى إذا استمرت البُنى السياسية على ما هي عليه:
دولة رسمية ترفع شعار السيادة، لكنها تتقاسم عمليًا سلطتها مع قوى السلاح والمال والمحاور.
خلاصة الفقرة
لبنان اليوم، بحق، دولة تؤجل انهيارها أكثر مما تعالجه.
وإذا كانت رئاسته الجديدة ومحاولاته للتفاهم مع صندوق النقد والإصلاح المالي خطوات ضرورية، فإنها غير كافية من دون معالجة جذور المشكلة:
-استعادة الدولة لقرارها السيادي
-تفكيك بنية المحاصصة الطائفية
-ودمج كل عناصر القوة – بما فيها السلاح – ضمن مشروع وطني جامع لا ضمن اصطفاف محوري خارجي.
في السياق الأوسع للبحث، يمثل لبنان "الحالة الحدّية" التي تقف عندها أسئلة العرب الكبرى:
كيف يمكن لدولة أن تنجو عندما تنقسم سيادتها بين الداخل والخارج، وبين السلاح والمال، وبين الحدود الجنوبية وغرف القرار الإقليمي؟
4- سوريا… دولة معلّقة بين حربين
تقدّم سوريا اليوم واحدًا من أكثر النماذج تعقيدًا في العالم العربي؛ نموذج دولة لم تخرج من الحرب، بل خرجت من "شكلٍ” من أشكالها إلى شكلٍ آخر. فبعد أكثر من عقد من الصراع المسلح، والدمار الممنهج، والتدخلات الإقليمية والدولية، جاء سقوط نظام بشار الأسد في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 لا باعتباره نهاية الحرب، بل بداية مرحلة جديدة من الصراع على تعريف الدولة نفسها: من يحكمها؟ وكيف تُدار؟ ولصالح أي مشروع تُعاد صياغة الجغرافيا والسلطة؟
من هنا، تصبح سوريا في منتصف العشرينيات من هذا القرن دولة معلّقة بين حربين:
- حرب أولى دمّرت البنية التحتية والديمغرافيا والاقتصاد، وأسقطت نظامًا حكم لأكثر من نصف قرن.
- وحرب ثانية لم تُعلن رسميًا بعد، لكنها تتجلى في تنافس قوى داخلية وخارجية، وصراعات على مناطق النفوذ، واستمرار الضربات الإسرائيلية، والتوترات التركية–الكردية، وتداعيات الانهيار الاقتصادي والاجتماعي.
أولًا: سقوط النظام… نهاية فصل لا نهاية حرب
بسقوط نظام الأسد أواخر 2024 على يد تحالف تقوده هيئة تحرير الشام (هيئة ذات جذور جهادية معروفة) بزعامة أحمد الشَرع (أبو محمد الجولاني سابقًا)، دخلت سوريا مرحلة انتقالية جديدة، لكنها انتقالية بلا توافق وطني جامع. تقارير رسمية دولية، مثل مذكّرات حكومية بريطانية وقراءات لمراكز أبحاث، تؤكد أن النظام الجديد أصبح يحمل بصمة إسلامية متشددة في بنيته القيادية، مع استمرار تشظي السيطرة الفعلية بين فصائل مسلحة وقوى محلية وإقليمية.
ورغم الحديث الدولي عن «فرصة تاريخية» لإطلاق انتقال سياسي أوسع، ظلت الهياكل العميقة للصراع قائمة:
- انقسام جغرافي بين الشمال الشرقي الواقع تحت نفوذ قوات سوريا الديموقراطية (قسد) والتحالف الدولي، والمناطق الشمالية الغربية ذات الحضور التركي والفصائل المعارضة، والجنوب المتوتر بالقرب من حدود الجولان، والمركز الذي تحاول الحكومة الجديدة تثبيت سيطرتها عليه.
- استمرار التدخلات الدولية، حيث لم يؤدِّ سقوط النظام السابق إلى انسحاب القوى الخارجية، بل إلى إعادة توزيع النفوذ بينها.
بهذا المعنى، فإن سقوط الأسد لم يُنتج دولة جديدة بقدر ما فتح الباب أمام صراع على الدولة.
ثانيًا: اقتصاد في حالة انهيار مستمر
تصف تقارير الأمم المتحدة والبنك الدولي الاقتصاد السوري بأنه في حالة "سقوط حر". فبحسب تقرير الأمم المتحدة عن نتائج عام 2024، يعيش 90% من السوريين في حالة فقر، ويحتاج أكثر من 17 مليون شخص إلى شكل من أشكال المساعدة الإنسانية، مع بنية تحتية مدمرة وقطاعات خدماتية شبه منهارة.
تُشير تقديرات البنك الدولي وتقارير اقتصادية إلى أن:
- الناتج المحلي الحقيقي انكمش بشكل متكرر، مع توقعات بانكماش إضافي في 2024 وما بعده.
- الليرة السورية فقدت نحو ثلثي قيمتها خلال 2023 وحده، مما دفع التضخم إلى مستويات تقارب 40% في 2024، وزاد من تآكل القدرة الشرائية للسكان.
- نسبًا متصاعدة من الأسر باتت عاجزة عن تأمين الحد الأدنى من حاجاتها الغذائية والتعليمية والصحية، مع ارتفاع معدلات الفقر المدقع إلى أكثر من ثلث السكان في بعض التقديرات.
حتى بعد التغيير السياسي في أواخر 2024، لم يشهد الاقتصاد تحسنًا يُذكر، لأن مقومات التعافي - الاستقرار الأمني، رفع العقوبات، استقطاب الاستثمارات، إعادة الإعمار - ارتبطت مباشرة بشرعية الحكومة الجديدة ومدى قبولها دوليًا. وبما أن القيادة الجديدة مرتبطة بتاريخ تنظيمات متشددة، فإن هذا خلق ترددًا دوليًا كبيرًا في فتح قنوات دعم جاد، ما جعل سوريا عالقة في حالة "فراغ اقتصادي – سياسي" خطير:
لا نظام قديم قادر على إدارة الانهيار، ولا نظام جديد معترف به بما يكفي لإعادة البناء.
ثالثًا: اللاجئون والنازحون… عودة بلا ضمانات
جبهة أخرى تبيّن أن سوريا بين حربين هي جبهة اللاجئين والنازحين.
في 2025، تشير بيانات المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين إلى:
- حوالي 5.9 مليون لاجئ سوري مسجّل في المنطقة (تركيا، لبنان، الأردن، العراق، مصر، وشمال أفريقيا).
- ملايين النازحين داخليًا، مع تقديرات بعودة أكثر من 1.2 مليون نازح وقرابة نصف مليون لاجئ إلى داخل سوريا منذ نهاية 2024 حتى منتصف 2025، مدفوعين بأمل التغيير، ولكن في ظل غياب ضمانات حقيقية للأمن والخدمات وفرص العيش الكريم.
هذه الأرقام تُظهر أن هناك حركة عودة ملحوظة بعد التغيير السياسي، لكنها عودة محفوفة بالمخاطر:
-بنية تحتية مدمَّرة في مناطق واسعة.
-غياب منظومة قضائية مستقرة تضمن حقوق العائدين في السكن والأملاك.
-مشكلات أمنية في مناطق عديدة نتيجة سيطرة فصائل متعددة السلاح.
هكذا، يتحول ملف العودة من علامة أمل إلى تحدٍّ جديد: كيف تُدار عودة واسعة في بلد لم تُحسم هويته السياسية ولا تماسكه المجتمعي بعد؟
رابعًا: إسرائيل وسوريا… السماء المفتوحة والحرب الجديدة
منذ سقوط النظام السابق، تحوّلت الأجواء السورية إلى ما يشبه ساحة عمليات مفتوحة أمام سلاح الجو الإسرائيلي.
تُظهر بيانات من منظمات رصد مستقلة ومنصات تحليل بيانات النزاع أن:
- عدد الغارات الإسرائيلية على الأراضي السورية بلغ مستويات قياسية منذ ديسمبر 2024، متجاوزًا ما سُجّل خلال 2023 بأكمله، مع تصاعد واضح في الأشهر الأولى من 2025.
- هذه الغارات لم تعد تستهدف فقط مواقع مرتبطة بإيران أو حزب الله كما كان في السنوات السابقة، بل توسعت لتشمل مواقع عسكرية سورية، وحدات دفاع جوي، ومناطق يُشتبه أنها تحت سيطرة قوى مرتبطة بالنظام الجديد أو معارضة له.
تحليل سياسي لهذه العمليات يشير إلى أن إسرائيل تسعى إلى:
1- منع تبلور أي بنية عسكرية معادية قرب حدود الجولان المحتل.
2- استثمار لحظة الانتقال السياسي في سوريا لفرض "أمر واقع أمني” طويل الأمد، يشمل عمليًا تحييد الدفاعات الجوية السورية وإنتاج واقع يجعل من الصعب إعادة بنائها.
بهذا المعنى، فإن سوريا ما بعد الأسد ليست أقل تعرضًا للانتهاك الجوي، بل أكثر، وهذا يعمّق فكرة أن سوريا انتقلت من حرب داخلية إلى حرب متعددة الطبقات يكون فيها الداخل ساحة لتصفية حسابات الخارج.
خامسًا: الشمال الشرقي… عقدة قسد وتركيا والتحالف الدولي
في الشمال الشرقي، تظل قوات سوريا الديمقراطية (قسد) قائمة كلاعب رئيسي، بدعم من التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وتواجه ضغوطًا مكثفة من تركيا التي تصنّفها امتدادًا لتنظيمات تعتبرها إرهابية.
تشير تقارير أوروبية رسمية إلى أن:
- قسد تعرّضت لقصف متكرر من الجيش التركي خلال 2024–2025، ما جعلها في وضع دفاعي هش.
- التحالف الدولي عزز وجوده في بعض القواعد وأرسل معدات إضافية، في محاولة للحفاظ على توازن يمنع انهيار قسد بشكل كامل.
هذه المنطقة تمثل نقطة التقاء بين مصالح متعارضة:
-تركيا تريد إنهاء أي شكل من أشكال الحكم الذاتي الكردي على حدودها.
-قسد تبحث عن ضمانات سياسية وعسكرية لحماية وجودها.
-النظام الجديد في دمشق يسعى لاستعادة السيادة الشكلية على كامل الأراضي.
-الولايات المتحدة ترى في الشمال الشرقي ورقة نفوذ جيوسياسي في وجه روسيا وإيران وفي ملف الطاقة أيضًا.
هكذا يتحول الشمال الشرقي إلى مختبر لصراع الإرادات الإقليمي والدولي، ويترك علامات استفهام كبيرة على مستقبل وحدة الجغرافيا السورية.
سادسًا: بين حربين… أين تقف الدولة السورية اليوم؟
من خلال هذه العناصر المتشابكة، يتضح أن سوريا في منتصف العشرينيات ليست "ما بعد الحرب" ولا "قبل السلم"، بل دولة عالقة في منطقة رمادية بين حربين:
- حرب أولى أنهكت المجتمع والبنية التحتية، وأسقطت النظام السابق، لكنها لم تبنِ نظامًا مستقرًا.
- وحرب ثانية تتشكل عبر:
- صراع على الشرعية بين سلطات الأمر الواقع.
- تدخلات إسرائيلية وتركية وإيرانية ودولية مستمرة.
- تنازع على موارد نادرة واقتصاد يحتضر.
- توترات طائفية وإثنية تهدد بتفكك النسيج الاجتماعي.
من زاوية البحث الذي يدرس "العرب بين السقوط والنهضة”، تجسّد سوريا وجهًا صارخًا للمفارقة:
دولة تملك تاريخًا وثقلًا حضاريًا وجغرافيًا، لكنها تُعامل في النظام الدولي وكأنها مجرد «مساحة إدارة أزمة» يمكن تأجيل حسمها إلى أجل غير مسمى.
خلاصة الفقرة
سوريا اليوم ليست مجرد ملف من ملفات الشرق الأوسط، بل سؤال مفتوح عن مستقبل الدولة العربية نفسها:
هل تخرج من رحم هذه المرحلة دولة وطنية جديدة قادرة على استعادة سيادتها وبناء عقد اجتماعي جامع؟ أم أن سوريا ستتحول إلى نموذج دائم للدولة–الساحة التي تُدار فيها صراعات الآخرين؟
في سياق "امتحان الوجود العربي”، تبدو سوريا مثالًا حيًا على أن سقوط نظام لا يعني نهضة أمة، وأن الانتقال من الاحتراق إلى الولادة يحتاج أكثر بكثير من تغيير الأعلام في القصر الرئاسي؛ يحتاج إلى مشروع وطني، وإرادة مستقلة، وشجاعة الاعتراف بالأخطاء التاريخية وإعادة البناء من جديد.