
القلعة نيوز-
د. علي العتوم
(فلمّا قَدِمُوا المدينة - مَنْ بايعَ الرسول من الأنصار على الإسلام في مكّة - أظهروا الإسلام بها، وفي قومهم بقايا من شيوخ على دينهم من الشرك منهم عمرو بن الجموح. وكان ابنه معاذ بن عمرو شَهِدَ العقبة، وبايعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بها. وكان عمرو بن الجموح سيداً من سادات بني سلمة، وشريفاً من أشرافهم، وكان قَدِ اتّخذ في داره صنماً من خشب يُقال له مناة، كما كانت الأشراف يصنعون، تتخذه إلهاً تُعظِّمه وتُطهِّره. فلمّا أسلمَ فتيان بني سَلَمَة، معاذ بن جبل وابنه معاذ بن عمرو بن الجموح في فتيان منهم مِمَّنْ أسلم وشهد العقبة، كانوا يُدلِجون بالليل على صنم عمرو ذلك، فيحملونه فيطرحونه في بعض حُفَر بني سَلَمة، وفيها عِذَرُ الناس مُنكَّساً على رأسه، فإذا أصبحَ عمرٌو قال: ويلكم، مَنْ عدا على آلهتنا هذه الليلةَ؟! قال: ثُمَّ يغدو يلتمسه حتَّى إذا وَجَدَه غسلَه وطهَّرَهَ وطيَّبَهَ، ثُمَّ قال: أَمَا واللهِ لو أعلمُ مَنْ فعل هذا بكَ لأُخزيَنَّه. فإذا أمسى ونام عمرو عَدَوْا عليه ففعلوا به مثل ذلك، فيغدو فيجده في مثل ما كان فيه من الأذى فيغسله ويُطهِّره ويُطيّبه، ثُمَّ يعدونَ عليه إذا أمسى فيفعلون به مثل ذلك.
فلمّا أكثروا عليه استخرجَه من حيث ألقَوْه يوماً، فغسله وطهَّرَه وطيَّبَه، ثُمَّ جاء بسيفه فعلَّقه عليه، ثُمَّ قال: إنّي والله ما أعلمُ مَنْ يصنع بك ما ترى، فإنْ كان بك خيرٌ فامتنعْ. فهذا السيف معك، فلمّا أمسى ونامَ عمرٌو عَدَوْا عليه، فأخذوا السيف من عُنُقه ثُمَّ أخذوا كلباً ميِّتاً فقرنوه به بحبلٍ ثُمَّ ألقَوْه في بئرٍ من آبار بني سَلَمة فيها عِذَرٌ من عِذَرِ الناس، ثُمَّ عدا عمرو بن الجموح فلم يجدْه في مكانه الذي كانَ به، فخرجَ يتَّبِعه حتى وجده في تلك البئر مُنكَّساً مقروناً بكلبٍ ميِّتٍ. فلما رآه وأبصرَ شأنَه وكلَّمَه مَنْ أسلمَ من رجال قومه فأسلمَ يرحمه الله، وحَسُنَ إسلامه. فقال حينَ أسلمَ وعرف من الله ما عرف، وهو يذكر صنمه ذلك وما أبصرَ من أمره، ويشكر الله تعالى الذي أنقذه مما كانَ فيه من العمى والضلالة:
واللهِ لَوْ كُنتَ إِلهاً لَمْ تَكُنْ
أنتَ وكلبٌ وسطَ بئرٍ في قَرَنْ
أُفٍّ لملقاكَ إلهاً مُسْتَدَنْ
الآنَ فَتَّشْناكَ عن سوءِ الغَبَنْ
الحمدُ للهِ العَلِيِّ ذِي المِنَنْ
الواهِبِ الرزّاقِ دَيّانِ الدِّيَنْ
هُوَ الذي أنقذَنِي مِنْ قبلِ أنْ
أكونَ في ظُلْمَةِ قبرٍ مُرْتهَنْ
بأحمدَ المهدِي النبيِّ (المُؤْتَمَنْ)
السيرة النبوية لابن هشام، القسم الأول (ج1 ، ج2) ط2 ، 1375هـ - 1955م (الحلبي) تحقيق مصطفى السقّا وزميلَيْه، ص (452 ، 453).
تعليقات:
1. التعريف:
عمرو بن الجموح: هو عمر بن الجموح بن زيد بن حرام من بني سلمة من الأنصار الخزرجيِّين رضي الله عنهم. كان آخر الأنصار إسلاماً. وكان سيداً من سادات قومه بني سلمه وأشرافهم. وكان له صنمٌ بقي يتمسح به إلى ما بعد الهجرة بوقتٍ، يضعه في بيته ويُعظِّمه حتى إذا عدا عليه ابنه معاذ بن عمرو مع فتيان من الأنصار منهم معاذ بن جبل فأخذوه ووضعوه في حُفَر القوم وفيها أقذارهم، راح هو يستخرجه فيغسله ويُطهِّره ويُطيِّبه ويُعيده لمكانه. فلما أكثروا من ذلك وضعَ في عنقه يوماً سيفاً وقال له: إنْ كان بك قوّة فدافع عن نفسك بهذا السيف، فما كان من الفتية الأنصار هذه المرة، إلاّ أنْ سلبوه السيف وقرنوه بكلب ميت ورموا به في الأمكنة التي كانوا يرمونه بها. وعندما أبصرَه وقد بدأ يُغيّر تفكيره، واستثمرَ بعض رجال قومه الوضع فذكَّروه بالله وأنَّ له عقلاً يهديه إلى الرُّشد، فهجرَ الصنم وتركَ عبادته وأسلمَ وحسنَ إسلامه. ولم يحضرْ بدراً منعه بنوه لعَرَجه، غيرَ أنّه في أُحُد أقسَمَ أنْ يطأَ بعرجته الجنّة، فدعا الرسول صلى الله عليه وسلّم، بنيه أنْ يدعوه فلعلّه يُرزَقِ الشهادة. واستشهدَ فعلاً فيها.
2. المعاني:
العقبة: المكان الذي بايَعَ فيه الرسول الأنصار البيعتَيْن فيها، وهي في مِنَى حيث تُرمَى الجِمار. يُدلِجون بالليل: يقومونَ ليلاً، وفي الحديث: (مَنْ خافَ أدلجَ، ومَنْ أدلجَ بَلَغَ المنزل، أَلاَ إنَّ سلعةَ اللهِ غالية، أَلاَ إنَّ سلعةَ اللهِ الجنّةُ). عِذَر: جمع عَذِرَة وهي فضلاتهم وقاذوراتهم. مُنكَّساً: منكبّاً على وجه. آلهتنا: يعني صنمه الذي يتّخذه إلهاً يعبده. لأُخزيَنَّه: لأذلنَّه. بئر: حفرة في الأرض يُجمَع بها الماء عادةً، وهي مؤنّثة لقوله تعالى: (وبئرٍ مُعطَّلةٍ وقصرٍ مشيدٍ). أبصرَ شأنه: رجع إليه تفكيره. في قَرَن: مربوطَيْن بحبل واحد أنتَ والكلب الميت. أُفٍّ: كلمة للتضجُّر، وهي اسم فعل مضارع بمعنى أتضجَّر، قال تعالى: (ولا تقلْ لهما أُوفٍّ). مُستَدَنْ: مخدوماً من السِّدانة، أي تبّاً لك نخدمكَ ونعبدُكَ وأنتَ لا تُدافع عن نفسكَ، ولا تفعل بمن آذاكَ شيئاً. الغَبَن: الخسارة، وفي الحديث: (نعمتان مغبونٌ فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ). ذي المِنَن: صاحب الإفضال والإنعام. ديّانِ الدِّيَن: الحاكم على أصحاب الديانات جميعاً. مرتهن: محبوس بعملي الفاسد.
3. ما يستفاد من الخبر:
أ. أهمية الشباب في الأُمّة فهم عصبها الحيوي دعوةً لله وجهاداً في سبيله وبناءً لكيانها. فها هم شبّان الأنصار لم يتوانَوْا بعد الهجرة أنْ يقوموا بالدعوة إلى الله بالإنكار على مَنْ بَقِيَ من قومهم يعبدون الأصنام، ولو كانوا من أقرب الناس إليهم كما فعلَ ابن عمرو بن الجموح وإخوانه من شباب الإسلام.
ب. حماقة الجاهليِّين وسُخف عبادة الأصنام. فهذا عمرو بن الجموح السيد الشريف الجواد الكريم لا يحجزه عقله عن عبادة حجارة لا تضر ولا تنفع بانَ زيفُها من صنمه الذي كان يُوضَع في أوساخ القوم ويُسلَب منه السيف ويُربَط مع كلب نافق فلا يُحير ردّاً عن نفسه.
ج. نجاعة الأسلوب الدعوي الحكيم كما كان يفعل شباب الأنصار بصنم عمرو هذا واستغلال الوقت المناسب ليضربوا ضربتهم في قلب الجاهلية في سبيل الله. وقدِ اهتبلوها عندما بدأ عمرو يرجع إلى بصيرته ويستعمل عقلَه في اعتبار أنَّ الأصنام حجارة لا تضرّ ولا تنفع، وفي تلك اللحظة الحاسمة حسمَ أمره فتركَ الوثنية واتَّخذَ طريق الإسلام ملتزماً به أشدَّ الالتزام وأحسنَه.
د. الجاهلية هي الجاهلية قديماً وحديثاً: سخافة تفكير وتعبُّداً للعادات والتقاليد الموروثة، ولو كان العقل السليم يُنكِرُها والتفكير الصحيح يأباها. ومن هنا نجدُ هؤلاء سالِفاً وخالِفاً هم من الملا أصحاب الجاه والسلطان والمال والجِدَة يفعلون أفعال الجاهلية، هكذا تكبُّراً وتنفُّجاً وعناداً وإصراراً على ما يَرَوْن. وجاهليُّو اليوم يبدون أكثر سُخفاً لاغترارهم بعادات الأجانب أهل الخبائث والفواحش.