نجا بأعجوبة
مرّة واحدة زرت بيروت، وكان ذلك في العام 2006 لإجراء حوار في أحد استوديوهات فضائية عربية، وكان أسبوعاً من بيروت. نادراً ما أمكث في الفندق، ونادراً ما أنام. ومن شارع الحمراء ومقاهيه الساهمة الوارفة بالظلال إلى البحر. ولم يكن في بالي أي مكان في حدّ ذاته. لكن يُخيل إليّ الآن أنني أخذت تاكسي أجرة إلى المرفأ. من المؤكد أنني كنت في المرفأ، على الشاطئ كنت وكانت الشمس كما لو أنها أقرب إلى الماء، وعندما انفجر المرفأ لم تكن هناك أية لحظة لتبيّن فيما إذا كنت هناك ذات يوم، ففي ثوان كان المرفأ ممسوحاً عن الخريطة البيروتية التي تحطّمت حدودها، وما كان لي ولك سوى الدخول في صندوق التلفزيون للبحث عن بيروت، وعن أصدقائنا هناك..
- ألو...
- الهاتف لا يردّ.
- هل استشهد أم جُرح؟
- لقد نجا، ولكن بأعجوبة.
ذلك كان ملخّص المكالمة الهاتفية التي أجريتها مع إحدى السيدات العاملات مع الصديق أحمد فرحات في مؤسسة الفكر العربي.. نجا أحمد بأعجوبة إذن، وبأعجوبة أخرى وثالثة ورابعة نجا أصدقاؤنا، ومن لم ينجُ جرحه الزجاج، أو طار في الهواء.
الفطر السام
رسم انفجار مرفأ بيروت لوحة من ثلاثة ألوان: الأحمر أو الزهري، والرمادي، والأبيض. كلّها ألوان حارّة حتى لو كان الرمادي بارداً بعض الشيء. تشكّلت في سماء بيروت غيمة على شكل فطر، ولكنه فطر الأمونيوم السام. في البداية وبحسب الصورة التلفزيونية ظهر عمود جهنّمي توجه نحو السماء، ثم انفتحت قبّعة الفطر، أو بوصف آخر كما لو أنها صورة مظلّة تنفتح في السماء بسرعة انفجارية نووية.
تصدّعت بيروت في الحال، وتصدّع البحر. هذه ليست هزّة أرضية بقوّة 4.5 درجة على معيار ريختر رصدها مركز الزلازل في الأردن، وليست غيمة سوريالية حمراء رآها من كان في قبرص، وليس صاروخاً قادماً من تحت الماء، ولا هي رسالة من تحت الماء. بل هو فطر سام كان ينمو في العنبر 12 في ميناء بيروت، وعندما اكتمل نضجه تحوّل إلى سحابة نووية كسرت ظهر بيروت.
حفرة الموت
في الثمانينات من القرن العشرين أصدرت غادة السمّان كتاباً بعنوان «لا بحرَ في بيروت»، فهل كان الكتاب نبوءة طويلة الأمد.. إلى أن نضج الفطر الأرجواني السام وابتلع البحر. تحطّمت المراكب والسفن والقوارب.. وكانت فيروز تغني «يا ريتو ما كان في مراكب...//.. يا ريتو ما كان في سفر»، انكسرت الأغنية أيضاً، ماتت الأسماك القليلة الصغيرة قبل أن تكون وجبة غداء بيروتية مع شيء من الكبة والتبولة. مات الصيّادون. انقلبت المراكب وتطعّجت وأصبحت هياكل خشبية متفحّمة بالقرب من حفرة في البحر. قبر في الماء للصياد البيروتي الكهل. قبر جماعي للأسماك في حفرة الموت، ولا بحر في بيروت...
القمح القتيل
انحدر القمح من صوامعه في المرفأ نحو الأرض على شكل شلّال ذهبي غنائي قبل أن يتحوّل إلى خبز، ولم يكن من خبز في بيروت قبل أن يسيل القمح كالماء الأحمر متماهياً مع دماء اللبنانيين الذين انعجنت أجسادهم تحت الحجارة. كله عجين، أخي اللبناني.. نترات الأمونيوم تعجن اللبنانيين، والطبقة السياسية الفاسدة تعجن البلد، والفرّان لا يجد الآن قمحاً ليعجنه على نار هادئة، ولا نار هادئة في بيروت مطلقاً. انظر كيف تحوّل المرفأ إلى طلل، ما عدا اهراءات أو صوامع القمح، ظلّت واقفة لا لأنها خرسانية مسلّحة بالأسمنت والحديد المضاد للأمونيوم، بل لتظل شاهدة.. ولتظل إشارة.
شاهدة على يوم قيامة سريع في بيروت، وشاهدة قبر جماعي أيضاً، وإشارة على دولة يأكل سادتها الخبز المخمّر الطازج، ويأكل الشعب الخبز الحافي.
جدل بيزنطي
في أثناء زيارتي إلى بيروت أخذني أحمد فرحات إلى مقهى بيروتي لم يخبرني عن اسمه، كان مقهى «جدل بيزنطي» هو أشبه بمنتدى أدبي. قراءات شعر، وعزف على الغيتار والعود والكمنجة. وكلام في الثقافة، وصداقات تشع بالمحبة والرفقة الإنسانية العالية.
لم يكن المقهى عبثياً أو فوضوياً، بل كان منظماً ومرتباً وجميلاً. كان مكان ثقافة وصداقات وموسيقى، وكانت ليلة بيروتية صافية.
في لبنان، الطبقة السياسية بكل أطيافها «كلّن يعني كلّن» تنتج جدلاً بيزنطياً بدرجة ممتاز منذ الثمانينات وحتى اليوم. جدل سياسي بيزنطي لا يستعير من المقهى البيروتي روحه وأخلاقياته وجماليّاته. كأن الثقافة في حدود قصوى تنأى بنفسها عن الغرق في هذا الطين الثقيل الذي أدّى إلى عفن كامل الدسم وجد الفطر السام فيه تربة خصيبة للنمو.. ثم، الانفجار.
قيامة الغبار
لا يوجد في الأدبيات الأسطورية والميثولوجية وصف مكتمل ومفصل ليوم القيامة، لكن انفجار المرفأ يبدو كأنه استعارة ممكنة من هوامش يوم «العهن المنفوش».. وفي سورة القارعة: «وتكون الجبال كالعهن المنفوش» أي تستوي الجبال بالأرض مثل الصوف المندوف. ولم يكن مرفأ بيروت جبلاً، ولكنه كان صوفاً مندوفاً منتشراً مُسوّى تماماً بالأرض. إنه يوم قيامة الفطر المسموم من العنبر 12 وانتصابه على شكل عمود أرجواني مرعب.
قامت نترات الأمونيوم من نومها في عنابر المرفأ، وبالقرب من صوامع القمح. قام الوحش الكيميائي من رقاده ودعس وجه بيروت ووجه البحر ووجه الشمس التي كانت تنحدر هادئة نحو المغيب في مدينة يُراد لها أن تكون في غيبوبة. يراد لها أن تكون مختطفة ورهينة، وهي كذلك... رهينة العهد وخطيفة الحزب.
قمصان الدم
من روع الانفجار المُركّب من السمّ والاستغلال والكذب، تناثرت الحجارة، وعمّ الغبار وجه الشاطئ، لكن الصور التراجيدية التي كانت تنقلها فضائيات البث المباشر كانت لرجال ونساء مضرّجين بالدم.. ثياب مبقعة بالأحمر. قمصان أصبحت رايات حمراء. ناس مذهولون، ومصدومون، وهائمون على وجوههم وهم يحملون دماءَهم على ثيابهم.
هذا هو الدم اللبناني على الهواء مباشرة. بث دموي مباشر، إن شئت بالتصوير التلفزيوني البطيء، أو التصوير السريع. لا فرق أخي اللبناني وأخي العربي. وهذه القمصان تصلح للذكرى أيضاً شاهدة وشواهد. تماماً مثل اهراءات القمح.
دعوا قمصانكم مثلما هي أيها اللبنانيون..
لا تغسلوا ثيابكم المضرجة بالدم. اتركوا الدم ينشف على القماش. إنها وثائق لحفظ رواية العار السياسي اللبناني، والعَبَثْ، واللّامبالاة، والإنكار والتنكر.
اتركوا قمصانكم كما هي أيها اللبنانيون. لا تنشروها على حبال الغسيل.
دعوا الكذّاب والاستقوائي والانتهازي ينشر غسيله القذر على الحبال. اتركوا قمصانكم أيها اللبنانيون تبكي دموعاً حمراء. دعوا القماش ينقّط دماً، فكل رجل منكم هو صومعة قمح، وكل امرأة هي راية مضرّجة بالدم والدموع.
الجنرال والشاعر
- هل نمت جيداً سيدي الجنرال بعدما غابت الشمس، وغاب المرفأ.
- نعم، وتعشّيت جيداً أيضاً.
- كم المسافة، سيدي الجنرال، من القصر إلى المرفأ.
- بطول المسافة من المرفأ إلى القصر.
- سيدي، لا وقت للمزاح والهذر والسخرية.. بيروت تحطمت.
- لا تبالغ أيها الشاعر. هكذا أنتم أيها الشعراء تبالغون وتبالغون.
- ولكنها ليست مبالغة. المرفأ ممسوح عن الخريطة.
- انتبه إلى نفسك.. ها أنت كما لو أنك توبّخني أيها الشاعر.
- «مش» أحسن من أن يوبّخك رجل آخر.
- ومن يوبّخني؟
- ضميرك مثلاً.
- ضمير المتكلم، أم ضمير الغائب.
- بل، لا ضمير أيها الجنرال.
الدولة والحزب
الحزب يأكل الدولة، والدولة تأكل الناس، والناس يأكلون الهواء. والهواء يأكل الفطر الوردي، والفطر يأكل القمح، والقمح مسفوح على الرمل، والرمل يتوجع، وأنا وأنتِ نشرب القهوة في «جدل بيزنطي»، وبيزنطة في اليونان، بالقرب من بيروت، وبيروت سمّاها بحّار فينيقي «البئر»، والفطر المسموم حفر بئراً في البحر، وأخوة يوسف حول البئر، شربوا ماءً ورموا حجراً فيه.. الحجر رفعت يوسف من الغيهب.
في بيروت شيء من قصة يوسف. بيروت عنقاء، والعنقاء تنهض من رمادها، والرماد تحوّل إلى حبر، والحبر تحوّل إلى قصيدة. بيروت قصيدة على البحر الأبيض المتوسط، متفاعلن، فاعلاتن، فعولن، مستفعلن، لا كسر في بيروت.
تجار الزجاج
تنشأ عادة في أزمان الحروب طبقة من الاستغلاليين الانتهازيين تسمى «أثرياء الحروب»، وهؤلاء يتاجرون بالبشر والحجر والشجر. من هؤلاء مثلاً أولئك القراصنة الصغار الذين يهرّبون المهاجرين السوريين إلى شواطئ النجاة في أوروبا حيث الأمل الموعود.
معظم أثرياء الحروب نصّابون وكذبة، لكن هذه الطبقة السوداء من البشر الحيوانيين لهم أشباه أيضاً ظهروا في بيروت، وفي أقل من أسبوع واحد على المأساة. إنهم، أو بعضهم حتى لا نظلم وننظلم «تجار الزجاج» بعد تدمير وعطب أكثر من 300 ألف بيت في بيروت. مرّة ثانية: الدولة، الحزب، الطائفة، المذهب، الجنرال، المُلّا ذو الرداء الأسود، صاحب شركة البرلمان، السياسي المتعصّب، الصهر المدلّل، صاحب البازار المفتوح، وغيرهم وغيرهم وغيرهم.. فإذا كان كل هؤلاء مزروعين في لبنان بجذور أقوى من الأرزة والبلّوطة، استكثرت على «شوية» تجار زجاج حفنة من الدولارات؟؟ أن تتاجر بالزجاج أهون ألف مرة من المتاجرة بوطن بأكمله. الزجاج ينكسر ويُستبدل، لكن بماذا تستبدل وطنك إذا انكسر.
ذبذبات متوحشة
إن حركة جناح الفراشة كفيلة بأن تصنع موجات ذبذبية تؤدي إلى زلزال، ولم تكن قبّعة الفطر المسموم فوق مرفأ بيروت فراشة. بل هي بالواقعية الصحفية والشعرية والسياسية والعسكرية خزنة مرعبة من نترات الأمونيوم المحرّمة.
من خَزَّن هذه المادة الكارثية في المرفأ؟.. من غطّى على المهرّب، والتاجر، والسمسار والكفيل والوسيط؟ مَنْ يحمي عادة ظهر اللص والمجرم والخائن؟ من يطبطب على الأكتاف العريضة لـِ «بودي غارد» المصنّع من الأسمنت والكوشوك بثقافة نفعية، إنكارية، تنكّرية، استغلالية؟؟
من عرّاب كل هؤلاء؟ وكيف تتخلّص منهم «ست الدنيا» الموزونة على البحر الأبيض المتوسط؟؟ ببساطة يحتاج اللبنانيون إلى تربية الملايين من الفراشات، لعلّ إحداها تذبذب بالقرب من طبقة الغش المتنفّذة في لبنان،.. «كلّن يعني كلّن» شعار الشارع.. الذي سيمتلئ ذات يوم بالورد، والقمح، والفراشات.-الدستور يوسف ابو لوز-