فى ساحة الاقتصاد الوضعي لا مجال للعواطف والمشاعر؛ فالكل يبحث عن المصلحة، وفي سبيل تحقيق المصالح والمنافع والمكاسب الاقتصادية، لا ينشغل أصحاب المال والقائمون على استثماره كثيراً بالوسائل والظروف الصحية والاجتماعية والاقتصادية التي يعيشها المجتمع، ولا بأوضاع المستهلكين الاقتصادية ومعاناتهم الصحية، ولذلك يستغل أصحاب الأموال والاستثمارات كل الفرص المتاحة لتحقيق أهدافهم الاستثمارية، وجني الأرباح، أياً كانت الظروف والأحوال.. وهذا ما بدا واضحاً في معظم المجتمعات منذ بدأت جائحة كورونا، التي يعانى العالم منها الآن أكثر من أي وقت مضى، حيث استغل أصحاب شركات الأدوية والمستلزمات الطبية في العالم تلك الجائحة لتحقيق مكاسب ومنافع مادية ضخمة.
فقد كشفت مواقع المال والأعمال العالمية عن جني شركات الأدوية واللقاحات عشرات المليارات خلال الجائحة، وأوضحت أن شركة شهيرة لإنتاج اللقاح حققت أرباحاً تقدر بأكثر من سبعة مليارات دولار خلال ثلاثة أشهر فقط!! كما جنت شركة غربية متخصصة في إنتاج أجهزة التنفس الصناعي مكاسب باهظة من وراء ما أنتجته خلال الشهور العشر الماضية تقدر بنحو أربعة مليارات دولار، ورفضت تخفيض أسعار أجهزتها للدول ذات الاقتصاد المحدود في أفريقيا وآسيا.. وتفيد التقارير الاقتصادية الواردة من الغرب باستغلال شركات متطلبات الحماية الشخصية للظروف الصحية الطارئة في العالم، وجنت أرباحاً كبيرة خلال الشهور الماضية. وإذا كانت الدول «القادرة اقتصاديا» تمتلك الأموال التي تدفعها لشراء اللقاحات اللازمة لإنقاذ أرواح مواطنيها، فإن أكثر من ثلثي دول العالم لا تستطيع دفع المبالغ الكبيرة التي تدفعها كبرى الشركات المنتجة للقاحات وفقاً لما أعلنه البنك الدولى. حول هذا الموضوع أجرى الصحفي بسيوني الحلواني من القاهرة تحقيقا صحفيا نشرته مجلة الاقتصاد الاسلامي ( ونشرت " الدستور " نشر الجزء الاول منه الاسبوع الماضي ) وفي ما يلي نص الجزء الثاني والأخير :
مسؤولية تضامنية دولية :
الدكتور محمد عوض تاج الدين، أستاذ الأمراض الصدرية وخبير مكافحة وباء كورونا، يتفق مع شيخ الأزهر في أن هناك مسؤولية تضامنية دولية لتوفير اللقاحات الضرورية للدول محدودة الإمكانات الاقتصادية، ويؤكد أن ما أعلن عن تخصيصه من اللقاحات لتلك الشعوب حتى الآن لا يكفي لسكان دولة واحدة. لكن الدكتور تاج الدين يعلق آمالاً على ما أعلنته منظمة الصحة العالمية، وتحالف اللقاحات (غافي) المتعاون معها عن وضع آلية لتوزيع لقاحات مضادة لفيروس كورونا المستجد لسكان الدول الفقيرة، وأنهما يتوقعان إرسال أولى الجرعات إلى هذه الدول في الربع الأول من العام الحالي 2021.
كان المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، «تيدروس أدهانوم غيبرييسوس»، في مؤتمر صحفي إن هذه الآلية المسماة «كوفاكس» ، تضمن الحصول على قرابة ملياري جرعة لصالح 90 دولة مشاركة في آلية كوفاكس.
وأعلنت منظمة الصحة وتحالف «غافي» في بيان أنه بات ممكناً «التحضير لأولى عمليات تسليم اللقاحات خلال الربع الأول من العام 2021، إذ إن القسم الأول من الجرعات – وهو كاف لحماية العاملين في القطاع الصحي والخدمات الاجتماعية – سيسلم خلال الشهور الثلاثة الأولى من هذا العام لكل الاقتصادات المشاركة (في آلية كوفاكس) التي طلبت جرعات في هذه المهلة.. غير أن تقريراً صادماً لصحفية «الجارديان» البريطانية، كشف أنه سيكون من الصعب على الدول الفقيرة الحصول على اللقاح الكافي لشعوبها قبل عام 2024 بسبب فشل مشروع كوفاكس، لتصنيع اللقاحات وتوزيعها عالمياً، ووفقاً للوثائق التي حصلت عليها الصحيفة البريطانية، فإن الدول الغنية تمكنت من شراء جرعات من لقاحات فيروس كورونا، تكفي لتحصين سكانها 3 مرات، كما أنها تعاقدت على معظم الكميات التي سيتم إنتاجها خلال العامين الحالي والقادم!!
وأوضحت «الجارديان» أن 67 دولة لن تتمكن من الحصول على لقاح كورونا، وأن واحداً من كل 10 أشخاص في هذه الدول يمكنه الحصول على اللقاح.
وشدد الدكتور عوض تاج الدين على أن التفرقة بين شعوب الدول الغنية والدول النامية في توزيع لقاحات كورونا سيضر العالم كله، فالعالم بحكم ما حدث فيه من انفتاح على نطاق واسع أصبح قرية صغيرة، ما يحدث في جانب منه يصيب معظم سكانه، وهذا ما حدث مع وباء كوفيد-19 الذي بدأ في ووهان الصينية ثم سرعان ما انتشر في العالم كله، ولذلك إذا أرادت الدول الغنية أن تحمي شعوبها فعليها أن تتعاون مع الدول محدودة الإمكانات الاقتصادية لتوفير اللقاحات الآمنة لها، كما يجب أن تتعاون المنظمات الاقتصادية الدولية مع الدول محدودة الإمكانات لتوفير لقاحات كورونا لشعوبها، وينبغي أن تتفاوض المنظمات العالمية مع الشركات المنتجة للقاحات لكى تتخلى عن مبدأ «الربحية الاستغلالية» مع اللقاحات التي تخصص لشعوب الدول النامية، وأن تقدم لها تلك اللقاحات بأسعار التكلفة أو يكون جزء منها على شكل هبات، مؤكداً أن هذا الواجب الإنساني يفرض نفسه الآن أكثر من أي وقت مضى، لمواجهة جائحة عالمية تهدد حياة كل شعوب العالم، وضحاياها بين كل الشعوب.
أنانية مرفوضة :
ويتفق الدكتور ضياء كامل، أستاذ الباثولوجي بجامعة (انجليا راسكن) ببريطانيا، مع الدكتور تاج الدين في ضرورة التخلي عن القيم الربحية في إنتاج وتوزيع لقاحات كورونا على الدول محدودة الإمكانات الاقتصادية، ويقول: استئثار الدول القادرة اقتصادياً على معظم لقاحات كورونا لشعوبها يكشف عن أنانية مرفوضة في ظل انتشار وباء عالمي يضرب العالم كله، فالدول ليست جُزراً منعزلة، ولا يتخيل قطع شعوب العالم للتواصل عن غيرهم من الشعوب عن طريق السياحة والسفر للعمل والدراسة، وممارسة الرياضة وغير ذلك.. ومن هنا ينبغي التخلي عن هذه الأنانية، وأن يدرك الجميع أننا نعيش في عالم واحد، وأن الأمراض تتناقل مع الإنسان أينما ذهب.. ولذلك يجب تعاون الجميع في توفير اللقاحات الحامية لشعوب العالم كافة، وإذا كانت اللقاحات تباع بأسعار تجارية للدول القادرة اقتصادياً، فينبغي أن تباع بسعر التكلفة أو أقل أو تقدم كهبات للدول النامية.
ويشدد الدكتور ضياء على أن التاريخ لن يرحم من يتاجر بمعاناة الشعوب الفقيرة في زمن الوباء، ويقول: أخلاقيات الاقتصاد الراقي تتطلب التخلي عن القيم التجارية والتضحية بالمنافع الاقتصادية في عصر الوباء، والإسهام في مساعدة الشعوب الفقيرة في التحصين ضد وباء قاتل لا يفرق بين أغنياء وفقراء، وباء يصيب الجميع حول العالم وضحاياه بالملايين من مختلف الشعوب.
أين الجهود العربية؟
وفي ظل السباق المحموم بين الدول الكبرى لإنتاج لقاحات واقية من وباء كورونا، وتخصيص النصيب الأكبر من هذه اللقاحات لشعوبها أولاً، وما نشهده من تنافس بين الدول الكبرى المنتجة للدواء في هذا المجال لتحقيق نتائج علمية، ومكاسب اقتصادية؛ يتطلع المواطنون العرب إلى جهود عربية مشتركة لإنتاج لقاحات أو على الأقل لقاح يضاهي اللقاحات الغربية ويكون في متناول الجميع.
تقول الدكتورة وجيدة أنور، عضو اللجنة العليا للفيروسات في مصر: لا شك أن إنتاج لقاحات في الدول العربية والإسلامية هو حلم نتطلع إلى تحقيقه، وندعو الله أن يتحقق عما قريب إن شاء الله، فبلادنا لديها من العلماء والباحثين المتميزين ما يمكنها من أن يكون لها جهد علمي متميز في هذا المجال الحيوي، فكل علماء العالم يبذلون الآن جهوداً مضاعفة، والدول الغربية تتسابق لتحقيق إنجازات علمية تؤدي حتماً إلى مكاسب اقتصادية فيما بعد، والأهم من ذلك توفير اللقاحات لحماية الشعوب العربية من مخاطر الفيروسات بكافة أشكالها، سواء الموجود منها حالياً أو ما يستجد منها مستقبلاً.
وتضيف: لا ينبغي أن تظل بلادنا العربية عالة على البلاد المنتجة للقاحات، بل ينبغي أن نخطو خطوات جادة تجاه إنتاج اللقاحات، وينبغي أن نؤهل مراكز أبحاثنا لإنتاج ما نحتاج إليه من لقاحات، خاصة وأننا نشاهد الآن أن الدول المنتجة للقاحات تحتكر معظم إنتاجها لشعوب دولها أولاً، وما تحصل عليه الدول المستهلكة للقاحات يمثل نسبة بسيطة من الإنتاج.
وتكشف الدكتورة وجيدة عن استمرار الجهود المصرية لإنتاج لقاح محلي لكورونا تتوفر فيه الفعالية اللازمة، والجهود التي تمت حتى الآن مبشرة للغاية، وهذا جهد دولة عربية واحدة، ولنا أن نتخيل جهود الدول العربية مجتمعة، لو تمت، كيف ستكون النتائج جيدة ومحققة لأحلامنا وطموحاتنا العلمية والصحية، وأيضاً الاقتصادية، فالشركات التي تنتج اللقاحات تحقق مكاسب كبيرة وبالتأكيد تسهم في النمو الاقتصادي لبلادها.
معاناة الشعوب الفقيرة :
ولأن وباء كورونا – كما تؤكد التقارير الاقتصادية – قد ضاعف من أعباء الدول النامية، والتي يمثل مواطنوها النسبة الأكبر من سكان العالم، حيث أكد البنك الدولي في تقرير له مؤخرا أن هذا الوباء قد رفع من تكلفة الرعاية الصحية، وإنه حتى قبل بدء الأزمة، كان الناس في البلدان النامية يدفعون أكثر من نصف تريليون دولار من مالهم الخاص ثمناً للرعاية الصحية، ويتسبب ذلك الإنفاق في مصاعب وأعباء مالية لأكثر من 900 مليون شخص حول العالم، ويدفع حوالي 90 مليون شخص للسقوط في براثن الفقر المدقع سنوياً، وهي دينامية من المؤكد تقريباً أنها تفاقمت بسبب الوباء. وأكد البنك الدولي أن هذا الوباء سيجعل رأس المال البشري معرضاً لخطر النقصان بسبب انخفاض مستويات دخل الأسرة – سواء بسبب فقدان الوظائف أو توقف تحويلات المغتربين، أو العديد من العوامل الأخرى المرتبطة بجائحة كورونا- ومع تراجع مستويات الدخل، ستضطر الأسر إلى إجراء مفاضلات وتقديم تضحيات قد تضر بالنواتج الصحية والتعليمية لجيل كامل.
يقول الدكتور إسلام عنان، أستاذ اقتصاديات الدواء بالجامعات الخاصة المصرية: لا شك أن ارتفاع تكلفة اللقاحات الخاصة بمواجهة وباء كورونا تفرض على المنظمات الدولية أن تقدم مبادرات لمساعدة الدول النامية على توفير اللقاح لمواطنيها، ويشيد بمبادرة البنك الدولي بتخصيص 12 مليار دولار لتمويل شراء وتوزيع لقاحات وفحوصات وعلاجات كوفيد-19 لمواطني الدول النامية، لكن دول العالم النامي في حاجة إلى تدعيمات أخرى من منظمات إقليمية، والدول ذات الاقتصاد القوي لتوفير الأموال التي تكفي لتوفير اللقاحات لما يزيد عن مليار شخص حول العالم.
ويؤكد الدكتور إسلام على أن شركات الأدوية العالمية المعنية بإنتاج اللقاح مطالبة بالتخلي عن نسبة من أرباحها مقابل التوسع في استخدام لقاحاتها في الدول النامية، وتقديم الضمانات اللازمة لحصول تلك الدول على لقاحات آمنة وفعالة.
استغلال مرفوض شرعاً :
الدكتور حسن الصغير، أستاذ الشريعة الإسلامية ورئيس أكاديمية الأزهر العالمية لتأهيل الأئمة والدعاة، يؤكد أن استغلال شركات الأدوية العالمية لجائحة كورونا لتحقيق مكاسب كبيرة من وراء ما تنتجه من أدوية ولقاحات ومستلزمات طبية، أمر تحرمه شريعتنا الإسلامية، فالإسلام يقر الربح المعتدل الخالي من استغلال حاجة المستهلك، خاصة في منتج ضروري وحيوي لإنقاذ حياة المرضى إذا كان علاجاً، أو لإنقاذهم من الاصابة بالوباء لو كان تطعيماً أو أدوات وقاية شخصية. ويضيف قائلاً: ما يتردد عن أرباح طائلة لشركات الأدوية العالمية من وراء جائحة كورونا أمر مؤسف ومحزن للغاية، ويؤكد أن عالم الاستثمار في الغرب يخلو من المسؤولية الأخلاقية، فالربح لا غنى عنه لأي منشأة اقتصادية، سواء أكانت طبية أو صناعية أو تجارية، وهذا أمر تقره الشريعة الإسلامية، لأنه العدل الذي جاء به الإسلام، فكل استثمار يستهدف الربح، لكن هذا الربح ينبغي أن يكون عادلاً وفي حدوده الطبيعية المتعارف عليها، ولا يكون مغالياً فيه نتيجة أزمة صحية كالتي يمر بها العالم الآن.