القاهرة - أقبل علينا شهر الخير والبركة.. شهر العطاء والتكافل الإنساني والاجتماعي بين المسلمين؛ غنيهم وفقيرهم؛ في كل مكان على ظهر الأرض.
لقد جاء شهر رمضان المبارك، وكثير من المسلمين في العديد من مجتمعات يواجهون تداعيات وباء كورونا المستجد الذي يطارد شعوب العالم، ويلحق الأذى بالفقراء ومحدوي الدخل أكثر من غيرهم، حيث ارتفعت معدلات الفقر والبطالة بنسب متفاوتة في مجتمعات إسلامية كثيرة، كما أشارت إحصاءات إلى تضاعف أعداد الغارمين بسبب تعطل أعمالهم، وعجزهم عن الوفاء بالتزاماتهم المادية.
هذه الظروف المعيشية الصعبة التي يعيشها ملايين الفقراء ومحدودي الدخل في العالم الإسلامي، يجب أن تستنفر المسلمين القادرين في كل المجتمعات، لتفعيل التكافل الإسلامي، وتجسيد نموذجه الفريد في حياتنا المعاصرة.
الزميل بسيوني الحلواني من «الاقتصاد الإسلامي» التقى عدداً من كبار العلماء وأساتذة الشريعة الإسلامية في القاهرة وسألهم عن واجبات المسلمين القادرين تجاه الفقراء ومحدودي الدخل في هذه الظروف المعيشية الصعبة.. وكيف يمكن تفعيل التكافل الاجتماعي الذي حث عليه الإسلام في رمضان ليكون نموذجاً فريداً في العطاء الإنساني للأغنياء كما تستهدف شريعتنا الغراء؟ وما فضل إغاثة الغارمين وفك كُربهم في هذه الأيام المباركة.. وهل عطاء الأغنياء للفقراء خلال رمضان ينحصر في تقديم الطعام فقط؟
وفيما يأتي جانب مما ما قالوه ونصحوا به:
الدكتور عباس شومان :
الدكتور عباس شومان، أستاذ الشريعة الإسلامية ووكيل الأزهر السابق، يؤكد حاجة فقراء المسلمين وأصحاب الحاجات منهم إلى عطاء مضاعف من أهل الخير في ظل ما خلفته جائحة كورونا من ظروف معيشية صعبة على الفئات الفقيرة، وما تسببت فيه من بطالة لمئات الآلاف من الشباب.. ويقول: العطاء الخيري للمسلمين يجب أن يتواصل في كل الظروف والأحوال لتلبية حاجات الفقراء والمساكين والغارمين، وغيرهم ممن ورد ذكرهم في آية المستحقين للزكاة (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبُهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل التوبة60)، بل يجب أن يتضاعف هذا العطاء مع قدوم شهر رمضان المبارك، شهر الجود والكرم.
ويضيف قائلاً: في ظل ما جَدّ من ظروف معيشية صعبة للفقراء في بلادنا، وتعطل كثير من العاملين وأصحاب الأعمال، يجب أن يتضاعف العطاء الإنساني والخيري، وبعض هذا العطاء مفروض شرعاً وهو الزكاة، فهي ليست اختيارية ولا تتوقف على جود النفس أو شحها، بل هي مفروضة بنص القرآن الكريم، فالله سبحانه وتعالى أمر بها تطهيراً للأموال وتزكية للنفوس من البخل فقال سبحانه: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصَلِّ عليهم إن صلاتك سَكَنٌ لهم والله سميع عليم) التوبة103. ويطالب الدكتور شومان بضرورة أن تنشط الجمعيات والمؤسسات الخيرية للعمل على حل مشكلات الفقراء وأصحاب الحاجات في بلادنا الإسلامية في ظل الظروف المستجدة، وزيادة حاجات فقراء المسلمين.. ويقول: نلاحظ تراجع الجهود الخيرية لبعض الجمعيات والمؤسسات العاملة في هذا الميدان، في وقت ننتظر منها أن تضيف الكثير من الجهود، وأن توفر متطلبات الأسر الفقيرة، فما تقدمه الحكومات من دعم مادي وعيني لا يفي وحده بحاجات الفقراء؛ خاصة ونحن جميعاً نعرف حجم ما أحدثته الجائحة لخزائن الدول من مشكلات وأزمات، وما تسببت فيه من معاناة إضافية للفقراء ومحدودي الدخل.
الدكتور حسن الصغير:
الدكتور حسن الصغير، أستاذ الشريعة الإسلامية والأمين العام لهيئة كبار العلماء، ورئيس أكاديمية الأزهر لتأهيل أئمة ودعاة العالم الإسلامي، يؤكد ضرورة إدراك القادرين مادياً لما عليهم من واجبات دينية وإنسانية تجاه الفقراء وأصحاب الحاجات في كل الأوقات وخاصة في الظروف الراهنة التي يعاني فيها أصحاب الحاجات من ظروف استثنائية بسبب جائحة كورونا وما خلفته من حاجة ملحة عند الفقراء، وما تسببت فيه من بطالة وضيق في العيش. ويقول: من جوانب العبقرية في شريعة الإسلام أنها إذ تحض على المسارعة في الخيرات وعمل الصالحات وترغّب فيها، تنوّع سبل الحض والترغيب على نحو يكفل إعمار الزمان والمكان بالتسابق إلى فعل الخيرات الباقيات الصالحات.
ويضيف قائلاً: على كل مسلم أن يدرك أن التكافل الاجتماعي المستدام في الإسلام خصيصة من خصائصه، وسمة بارزة من أجَل سماته، فالزكاة؛ في مصارفها الخاصة الثمانية التي جِماعها التكافل الاجتماعي بين المزكين وبين المصارف الشرعية، ركن ركين من أركانه، والصدقات التطوعية والتبرعات الإحسانية، على خاصة المحتاجين المعوزين، وعلى جهات البر والمعروف الخيرية، فضيلة عظيمة هي من جميل فضائله، ناهيك عن أبواب من النفقة الواجبة من غير الزكاة، كإغاثة ذوي الحاجة الملهوفين أصحاب الضرورات، وكأبواب أخرى من التكاليف الشرعية المالية بأسبابها، كالنذور والكفارات، كلها تصب في خانة التكافل الاجتماعي بين الأغنياء والفقراء.
وفي سبيل تنشيط عملية التكافل الاجتماعي وديمومتها خص الإسلام بعض الأوقات على مدار العام بزيادة الفضل وعظيم الثواب على صالح الأعمال، ولاسيما المسارعة في الصدقات وأعمال البر، ومن هذا شهر رمضان المعظم، حيث رغب الشرع في الإكثار من البذل والإنفاق فيه، بمضاعفة الثواب عليها أضعافًا مضاعفة، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أجود ما يكون في رمضان؛ لكون هذا الشهر موسمًا للخيرات ومضاعفة الثواب على الطاعات، ولكونه مع ذلك شهرًا للصيام عن شهوات الدنيا، على نحو يحس فيه الغني بحاجة الفقراء المعوزين إلى ضرورات الحياة طوال العام؛ فعن عبدالله بن عباس: «كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة من رمضان، حتى ينسلخ، يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة» (صحيح البخاري 1902 – صحيح)؛ لذلك ينشط الناس إلى المسارعة في الخيرات في شهر رمضان أكثر من غيره، كما هو معهود ومعروف؛ حتى سمي رمضان شهر الخير والبركة.
ويوضح الدكتور حسن الصغير أنه على الرغم من حصول مزيد من الخيرات وأعمال البر والطاعات في رمضان من كل عام؛ لكونه واقعاً نعيشه، إلا أننا في هذا العام وفي ظل الظروف الحالية، لابد من أن نذكّر الناس بفضيلة التكافل بين الأغنياء والفقراء المحتاجين المعوزين من محدودي الدخل والعاطلين وغيرهم من أرباب الحاجات، فقد خلفت موجات كورونا المتتابعة في شتى الأرجاء عاصفة عاتية من الركود، والكساد، وقلة الإنتاج، وشح فرص العمل، وزيادة معدلات البطالة، وكل ذلك عاد على السواد الأعظم من الناس، ولا سيما في الدول النامية الفقيرة، بالحاجة والعوز وشظف العيش، الذي هو المسغبة التي وصف الله تعالى فضيلة كفالة ذوي الحاجة فيها بأنه اقتحام للعقبة في قوله تعالى (فلا اقتحم العقبة. وما أدراك ما العقبة. فكُّ رقبة. أو إطعامٌ في يوم ذي مسغبة. يتيماً ذا مقربة. أو مسكيناً ذا متربة) البلد11-16.
ويضيف قائلاً: إن محن الفقر وضيق العيش قد اشتدت وبقوة في الآونة الأخيرة لدى كثير من الناس، وفيهم محدودو الدخل، وفيهم المرضى والعجزة والمقعَدون، وفيهم الكثير من العمالة المؤقتة الذين ضاقت فرص عملهم وضيقت البطالة أحوالهم، وفيهم الغارمون الذين كسدت تجاراتهم أو ركدت وخسرت مشروعاتهم، ولا شك أنهم جميعاً، بحكم حاجتهم، داخلون في جملة مصارف الزكاة، بل مستحقي الصدقة، وإن كفايتهم لتحتاج قطعاً إلى دعمهم بالتبرعات والصدقات التطوعية عيناً ونقدًا، وفي رمضان فرصة لعمل أنماط من إعانات التكافل العينية والنقدية؛ فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وفي رمضان أضعاف أضعاف كل ذلك.
*الدكتور رفعت العوضي :
الدكتور رفعت العوضي، أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية، يرفض استجداء العطاء من أجل دعم المتضررين من كورونا في العالم الإسلامي.. ويقول: بعض هذا العطاء مفروض على المسلمين من خلال فريضة الزكاة، والبعض الآخر من جود نفوسهم وهو ما يتعلق بالصدقات التطوعية والوقف الخيري، والواقع أن كل صنوف العطاء المفروضة والتطوعية يجب أن تتكامل لمواجهة تداعيات جائحة كورونا التي تلقي بظلالها على العالم كله، وخاصة عالمنا الإسلامي الكبير، ففي المجتمعات الإسلامية عدد ضخم من الفقراء ومحدودي الدخل، ولا ينبغي أن يترك القادرون مادياً هؤلاء يواجهون شظف العيش وحدهم، فهناك مؤشرات اقتصادية وتقارير اجتماعية تؤكد ارتفاع أعداد الفقراء والعاطلين في دول إسلامية كثيرة، وهناك عشرات الآلاف من الأسر المسلمة التي تعيش في مخيمات إيواء داخل أو خارج أوطانها بسبب حروب ونزاعات هنا وهناك، وكل هؤلاء ينتظرون عطاءات أغنياء المسلمين، وهم كثيرون والحمد لله.
ويضيف قائلاً: نتطلع إلى عطاء متميز لأغنياء المسلمين لإغاثة وانقاذ المتضررين من وباء كورونا ومن غيرها، وينبغي أن يبادروا هم بذلك دون أن يستجدي أحد منهم هذا العطاء، فكل مسلم أنعم الله عليه بالرزق الوفير ينبغي أن يكون قدوة لغيره، وأن يكون ممن قال الله فيهم: (رجالُ لا تلهيّهم تِجارةُ ولا بيعُ عن ذكر اللْه وإِقام الصلاة وإِيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار، ليجزيهم اللهٌ أحسن ما عملِوا ويزيدهم من فضلهِ، والله يرزق من يشاءٌ بغيِر حساب) النور37-38.
*الدكتور محمد نبيل غنايم :
الدكتور محمد نبيل غنايم، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة، يؤكد أهمية وفضل العطاء الخيري في أوقات الأزمات والجوائح، ويؤكد أن الإنفاق على الفقراء والعاطلين والمرضى من غير القادرين والغارمين وغيرهم من أصحاب الحاجات يجزل الله عليه العطاء إذا ما حرص صاحبه على المسارعة به في أوقات الحاجة، وليس هناك حاجة أكثر من حاجة المسلمين في هذه الظروف الصعبة التي يعيشها الملايين من الفقراء والعاطلين في عالمنا الإسلامي. ويضيف قائلاً: لقد فرض انتشار وباء كورونا معاناة إضافية تتطلب الإخلاص في العطاء، والحرص على تخفيف المعاناة عن محدودي الدخل، وهذا ليس واجب الأفراد وحدهم، وليس واجب المؤسسات الخيرية فقط.. بل واجب الحكومات أيضاً، حيث يكون تخفيف الأعباء عن محدودي الدخل، وتيسير فرص الحصول على فرص عمل تكفل للعاطل حياة كريمة، فالأصل أن نوفر فرصة عمل لكل عاطل لكي يعمل وينتج ويكون عنصراً فاعلاً في المجتمع، وعندما يعجز عن العمل، أو عن الحصول على فرصة عمل علينا أن نكفله، ونوفر له سبل الحياة الكريمة، وهذا الواجب الإنساني يجب أن يتعاون عليه أهل الخير مع الحكومات، حيث لا يجوز أن تنشغل عن واجباتها الأساسية ومنها إعانة كل من لا يستطيع العمل.