القلعة نيوز : عندما يصبح «الموت» فرحاً، وعندما تُقدّم الحلوى بدلاً من القهوة السادة، وتعلو أصوات الزغاريد في بيوت عزاء الشهداء في فلسطين، عندها ليقف الاحتلال برهة ويراجع حساباته؛ فالشهداء، وإن غابوا بأجسادهم، يعيشون في ذاكرة المكان والزمان، ويرتقون في نفوس أهاليهم، إذ يعيشون بأرواحهم بين الأحياء، بل إن الأحياء يستمدون حياتهم من أرواح الشهداء.
كانت والدة الشاب اليافع عبد الرحمن قاسم، تعد الحلوى في منزل العائلة بمخيم الجلزون قرب مدينة رام الله، استعداداً للاحتفال بعيد ميلاده الثاني والعشرين، لكنها كانت المرة الأولى التي يخرح فيها عبد الرحمن، دون استئذان من والدته، والأخيرة، لكونه اختار أن يحتفل بهذه المناسبة كما يحلو له في ميادين التضحية والفداء.
«في الأيام الأخيرة، اعتاد عبد الرحمن، التوجه مع شباب المخيم، إلى مناطق الاشتباك مع قوات الاحتلال، ودائماً ما يكون في المقدمة» قالت والدته المكلومة، لافتةً إلى أن مقاومة الاحتلال كانت شغله الشاغل، خصوصاً مع تصعيد عمليات القمع الاحتلالي على امتداد الأرض الفلسطينية.
أضافت، بصوت يقطعه النحيب: «كنا ننتظر عودته في المساء، كي نحتفل بعيد ميلاده، لكن انتظارنا كان قاسياً، ولم نكن نتخيل أنه سيعود محمولاً على أكتاف رفاقه شهيداً، رغم أنه كان طالباً للشهادة، ودائم الحديث عنها، كان يقول لي ممازحاً: «ماذا ستفعلين يا أمي لو جاءكِ خبر استشهادي»؟.
لم تجد الوالدة ما تعزّي به نفسها، سوى توزيع الحلوى التي أعدّتها لعيد ميلاده، ابتهاجاً بنيل ابنها ما أراد، ولم توزع القهوة السادة كما جرت العادة، فعبد الرحمن كان يتمنى الشهادة، وكان يتوجه إلى نقاط الاشتباك بحثاً عنها، بل لعل الألم الذي خلّفه استشهاد عبد الرحمن، يقاس بمدى تأثر رفاقه، وكم سيكون الحمل ثقيلاً عليهم، عند خوض أول مواجهة، بينما مكانه في المقدمة شاغراً.
ولعل القناص الإسرائيلي، الذي اتخذ موقعاّ على مقربة من أبواب المسجد الأقصى المبارك، مُوقّعاً على قتل عبد الرحمن، لا يدرك ماذا تعني رصاصته التي اخترقت قلب الشهيد، وكم هو حجم الألم الذي ستخلّفه تلك الرصاصة، لتفيض به منازل مخيم الجلزون قاطبة، وكم سيكون حجم الفاجعة، في قلوب من أدمنوا ساحات المواجهة، التي ستفتقد لواحد من فرسانها.
في مخيم الجلزون، مسقط رأس الشهيد، تزيّنت الجدران والشوارع والساحات العامة، بصور الشهيد عبد الرحمن، التي التصقت بصور من سبقوه إلى ذات الدرب، وتعانقت مع صور الأسرى الذين كان يحلم بحريتهم، فيما القناص الذي عاش يوم اغتياله «ربيع مهنته» لا يرى في قتل عبد الرحمن وأمثاله، سوى رقم حسابي، سيزداد كلما انفتحت شهيته للقتل، الذي لم يردع يوماً فلسطينياً، حمل قضيّته في القلب والروح والنضال.