د. مروان المعشر
القلعة نيوز- منحت الثورات العربية التي بدأت أول العقد الماضي أملا للشعوب العربية، في أن تفضي إلى مجتمعات أكثر تعددية، وحكومات تنعم بالديمقراطية، ونظم يسود فيها القانون على الجميع من دون تمييز، وتنمية اقتصادية تحسن من مستوى معيشة الناس، وتعالج تحديات ارتفاع البطالة والدين العام والأسعار بشكل منهجي ومستدام. وفي حين حذّر البعض، وأنا منهم، من أن العملية التحولية التي يشهدها العالم العربي ستأخذ وقتا طويلا قبل أن تنضج، وقبل أن تتحول الاحتجاجات إلى بناء مؤسسي وتعددي مستدام للدولة الحديثة، فقد أعطت تونس حتى وقت قريب الأمل في إمكانية تحقيق نجاحات سريعة في مجال إرساء الدولة الديمقراطية المدنية، واختصار المسافات التي مرّت فيها دول ومناطق أخرى في العالم.
بعد مرور أكثر من عشر سنوات على هذه الثورات، يبدو أن العالم العربي ما زال يأبى أخذ العبر مما جرى، والتأسيس لمجتمعات حداثية مستقرة ومزدهرة، وما زالت أغلب النظم العربية ترفض اللحاق بباقي مناطق العالم، قياسا بمؤشرات الحرية والمعرفة، مع ما يرافق ذلك من انحدار لا ترجى عواقبه في مستويات التنمية والحرية.
إن أي جرد حساب لحال العالم العربي اليوم لا ترضي العدو قبل الصديق، فهناك دول عربية ليست بالقليلة في طريقها لأن تصبح دولا فاشلة، تمزقها الحروب الأهلية والإدارات المتهالكة من الداخل، وتنهش لحمها التدخلات الخارجية، وجلها دول لم تحترم تعددية مكوناتها الداخلية. لبنان وليبيا واليمن وسوريا والعراق، هي اليوم نماذج لدول تمتلك الموارد البشرية والمالية والطبيعية، ولكنها تفتقر إلى الحد الأدنى من الحوكمة الرشيدة واحترام تعدديتها الإثنية والدينية والجندرية. أما النموذج الآخر الماثل أمامنا فهو نموذج الدولة السلطوية، الذي كان ماثلا قبل الثورات العربية في أغلب الدول العربية، والأخذ في التمادي في سلطويته اليوم، على الرغم من تردي أوضاعه الاقتصادية والأمنية والاجتماعية. هذا النموذج عصي على التغيير، لأن قوى الوضع القائم فيه ما زالت تفضل انتهاج الطريق الأسهل سياسيا، وهو طريق الاعتماد على المساعدات الخارجية والدين العام والضرائب غير المباشرة، وارتفاع التضخم، عوضا عن إصلاحات سياسية واقتصادية حقيقية، وذلك حماية لامتيازات شخصية ونظم ريعية بائدة. وفي حين تشكل مصر أحد الأمثلة الواضحة على استمرار هذا النموذج، تنضم إلى هذا النادي تونس اليوم، ضاربة عرض الحائط بكل مكتسباتها الديمقراطية في الفترة الماضية، وغير آبهة بتقديم أي تصور اقتصادي لمعالجة التحديات التي تواجهها البلاد. وهناك النموذج الثالث الذي تمثله أغلب النظم الملكية في العالم العربي، وهو النموذج الذي يقدم إصلاحات صغيرة لإرضاء الشارع مرحليا، مع التركيز على بعض الإصلاحات الاقتصادية والمجتمعية، من دون أن يرافق ذلك تصور متكامل لأركان الدولة الحداثية كافة، ولنظم حوكمة تعتمد الفصل والتوازن بينها، ولتنمية اقتصادية مستدامة تبتعد عن الريع وتعتمد الإنتاجية. ما من شك في أن العديد من دول الخليج العربي بدأت تدرك استحالة استمرار النظم القائمة على النفط، وتقطع اليوم أشواطا مهمة في مجال التنمية الاقتصادية الجادة، وإن كانت بحاجة إلى قطع أشواط موازية في مجال الإصلاح السياسي.
تبدو التحديات التي تواجه المنطقة العربية كبيرة وقديمة، فاقم منها في السابق غياب نظم الحوكمة الرشيدة.. وتواجه المنطقة اليوم تحديات جديدة عدا تداعيات الربيع العربي، وتدني سعر النفط، تتمثل جل هذه التحديات بجائحة كورونا والحرب الروسية الأوكرانية، وإن كانت بطبيعتها عارضة، إلا أنها قد عمقت تلك التحديات وأدت الى ارتفاعات خطيرة في مستويات البطالة والدين والتضخم وأسعار الغذاء.
هناك تحد آخر جديد تجاهلته المنطقة حتى وقت قريب، وبدأت بالاهتمام به مؤخرا، وهو التغير المناخي، فارتفاع درجات الحرارة بات يؤثر بشكل ملحوظ في تبخر المياه ونقص المخزون المائي وانحسار الأراضي المزروعة، وما الأزمة بين مصر وإثيوبيا حول سد النهضة، إلا دليل على أثر التغير المناخي في العلاقات بين الدول. كما أن هناك أزمة اللاجئين في المنطقة العربية، بعد أن أصبحت هذه المنطقة تؤوي أكثر من نصف لاجئي العالم أجمع، وهي أزمة لها تداعيات إنسانية واقتصادية وأمنية، إضافة لتأثيرها في هويات الدول المضيفة. بتنا نعيش اليوم في عالم تتلاحق به الأزمات، والكثير منه عالمي التأثير وصعب التنبؤ به. وقد بات واضحا أن أدوات الأمس، عالميا وليس عربيا فقط، لم تعد كافية لمجابهة تحديات اليوم، فما بالك إن عجزت هذه الادوات عن حل التحديات الماضية؟
هذه ليست صرخة يأس من المستقبل، وقد لا يملك أحد ان يستسلم لواقع الحال، من دون أن ينتج عن هذا الاستسلام تداعيات مستقبلية خطيرة، لكن الواجب الوطني والعربي يستدعي أن نبقى ندق ناقوس الخطر من استمرار الوضع القائم. إن أرادت الدول العربية أن تلحق بركب التنمية الإنسانية، لا بد لها من أن تدرك أنها بحاجة لأدوات جديدة، بل لتصورات كلية متكاملة لمعالجة تحدياتها السياسية والاقتصادية والمجتمعية، وأنه لا سلك الطرق السهلة، ولا الإصلاحات المتجزئة ولا التشبث في الماضي سيحصنها عن الحاضر والمقبل من التحديات. أما مع الاستمرار في التغاضي عن كل هذه التحديات، فأخشى أننا قد نكون مقبلين على مرحلة من الاحتجاجات العربية المتجددة قد تكون أقل سلمية من الماضي، وقد تنتج عنها تداعيات كبيرة ليست من مصلحتنا جميعا.
القدس العربي