جمعة الشوابكة
تتجذر أزمة الحوار في العالم العربي بوصفها واحدة من أعمق المعضلات الاجتماعية والثقافية التي انعكست على مختلف جوانب الحياة، حتى باتت المجتمعات العربية تتحدث كثيراً ولكنها لا تتواصل حقاً. ولعل ما قاله هنري كيسنجر يوماً—بأن العرب لا يفهمون لغة الحوار فيما بينهم—يجد اليوم صداه القاسي في الواقع، ليس لأنه حقيقة مطلقة، بل لأنه توصيفٌ لخللٍ بنيويّ في البنية الاجتماعية على مستوى الأسرة والمؤسسات والدولة.
في الماضي، كانت الأسرة العربية الممتدّة فضاءً للحوار غير المباشر، حيث كان العمل الزراعي والرعوي يقسَّم بين الأبناء والآباء، فينشأ التعاون ويُزرع التفاهم دون الحاجة لخطابات تنظيرية. كانت الأسرة تنتج الطعام، والقيم، والحكمة، وتنتج معها قدرة طبيعية على الإصغاء والتواصل. أما الأسرة الحديثة فقد تقلصت إلى وحدات صغيرة، مغلقة، يعيش كل فرد فيها في غرفة معزولة وهاتفه هو نافذته الأساسية إلى العالم. ومع هذا التحول، لم يعد الحوار جزءاً من الحياة اليومية، فحلّت مكانه الحدة، وسوء الظن، والقطيعة، وارتفعت نسب الطلاق ليس بسبب الظروف الاقتصادية فحسب، بل بسبب غياب لغة التفاهم التي كانت في الماضي أساساً للاستقرار.
وانتقلت الأزمة من الأسرة إلى المدرسة والجامعة والحزب والعشيرة. في المدارس تراجع الحوار بين الطالب والمعلم، وفي الجامعات تحولت النقاشات إلى صدامات شعاراتية، وفي الأحزاب غاب احترام الرأي الآخر لصالح الإقصاء، وفي العشائر تقدمت العصبية على الحكمة، وفي المؤسسات سادت ثقافة القرار المفروض لا القرار المشترك، فتآكلت آليات التواصل على مستوى المجتمع بأكمله.
وعلى المستوى العربي العام، أصبح ضعف الحوار بين الدول انعكاساً طبيعياً لضعفه داخل المجتمع ذاته. فالنظام العربي يعيش حالة من الشك المتبادل، وتحولت الخلافات الصغيرة إلى صراعات طويلة، وتراجعت الثقة إلى أدنى مستوياتها، وصار التنسيق مشروطاً، والوحدة هامشية، والانقسام هو القاعدة. إن غياب الحوار يعني غياب الثقة، وغياب الثقة يعني غياب القدرة على بناء أي مشروع جماعي. وحين تتآكل الثقة، يبدأ الصمت بالتمدد، ويتوجه الناس نحو الهجرة بحثاً عن بيئات يتخيّلون—أو يجدون—فيها مساحات للتواصل واحترام الإنسان.
وفي المحصلة، لا تُختصر الأزمة العربية بالسياسة ولا بالاقتصاد، بل بجذر أعمق: أزمة في اللغة التي تربط الناس ببعضهم، في القدرة على الإصغاء قبل الكلام، وفي الاعتراف بأن الاختلاف ليس تهديداً بل ضرورة. ولن تنهض المجتمعات العربية ما لم تستعد فضيلة الحوار التي كانت يوماً أساساً لقوتها وتماسكها، قبل أن تهيمن عليها لغة القطيعة وتفتت الروابط التي تجمع أبناءها.



