أيلول يسير فيك الصيف الهويني.. يسير متثاقلاً وكأنّه يأبى الرحيل.. ونسائمه ممزوجة بعبق تراب الأرض.. وأوراق أشجاره تتساقط وترمي بها الريح فوق السحاب، لتُورِث حكايتها للوريقات التي تشق طريقها للحياة من جديد.. فالشمس أخذت تغرب بشكل أسرع من ذي قبل ، وفيه تنتهي معظم الأشياء ذات البهجة والفرح لتلك الأنفس المتعبة من شقاء الحياة ، فتنحسر الأعراس ومناسبات النجاح والتخريج ، فيسيرُ إلى معرّشات البطيخ فتهدم وتصبح خاوية ، فإلى جلسات أخر النهار أمام البيوت وشرب الشاي بالنعناع ولمّة الأهل من إخوة وأخوات وسط أصوات لعب الأولاد وفرحة لقاءهم ببعض فتتهاوى ، وكلّ يعود إلى بيته ويهيء نفسه وأولاده وبيته لإستقبال دوام المدارس والعمل. أمّا المغتربون فيُلملمون الدقائق الأخيرة من إجازتهم ، فيُغلقون جيدًا نوافذ غرفهم وبيوتهم ويغطون أثاث منازلهم ويُسدلون الستائر على الفِراش والمخدّات والألعاب. وإذا بالأمهات قد أعددن لهم المونة البلدية من الجبنة والسمن البلدي وزيت الزيتون والمخلل ، ولا تنسى أكياس الميرمية والزعتر التي عطّرت حقائب سفرهم . حتى أنّ نداه في الصباح الباكر يترقرق على زجاج سياراتهم ، وكأنّه يبكي فُرقة الأهل ورحيلهم خارج البلاد ، وهناك في السماء تعالت دعوة موحدة من نيران القلوب اللهم إنّا استودعناك أهلنا وبلدنا يا من لا تضيع عنده الودائع.
كما يحمل في طياته شيئًا من الاكتئاب ، وهجران الطيور لأرضها، فيتقلّب المناخ ويتغير مزاج النفس البشرية ، حتى أنّ الامام علي بن أبي طالب يقول :" تجنبوا هواء الخريف فإنه يفعل بكم ما يفعل بأوراق الشجر" ، إذ تعد الأجواء المسيطرة على الخريف من غيوم وانخفاض الحرارة المفاجئ وتراجع ضوء الشمس مقارنة بفصل الصيف من أكثر الأسباب التي تربطه بحالات الاكتئاب ، وذلك نتيجة لأنّ ضوء النهار يدعم جزء من المخ يطلق عليه" المهاد" وهو المسؤول عن افراز ماده" السيروتونين" والتي تعمل على تحسين المزاج العام. ورغم هذا فإنّ في أيلول الخير كلّه ، ففيه "شتوة أيلول" "أيلول ذيلو مبلول" التي تسقي الأرض بعد جفاف الصيف وتنعش كلّ حي ، فتنشر رائحة تراب الأرض في أرجاء السماء ، وتنتقل مع الرّياح معلنة أهازيج الفرح بتجدد الحياة. وفيه تشاهد فاكهة الرّمان المحببة للأطفال قد نضجت ، وتصبح تشتم رائحة الجوافه في الأسواق والحارات ، كما يعجبك منظر عناقيد البلح المتدلية هنا وهناك بألوانها الجذابة. وحين نقول فإنّ فيه الخير كلّه فإننا نعني ذلك ، فهو كما في المثل : " أيلول دباغ الزيتون " فالزيتون ينضج في هذا الشهر ، ويقال :" في أيلول بيطح الزيت في الزيتون والمرّ في الليمون" ، إذ يدل ذلك على أنه في أيلول يكتمل نضوج ثمار الزيتون ، كما تكتمل نضوج ثمار الليمون وتكتمل العصارة في حبوبه ويحين موعد قطافه ، حتى أنّ النهار يصبح كما في المثل" أيام الزيت أصبحت أمسيت" لشدّة قِصره .
أمّا الأمهات فيجتهدن بتأمين المؤَن للشتاء فقد أعددن الجميد والسمن البلدي ، وقمن بتنشيف الملوخيه والنعناع ، و البامية والبندورة إذ يقول المثل هنا " اذرو المساطيح من الريح" والمساطيح عند الفلاح هي ألواح يُصنع عليها ثمار التين والتي تكون في نهاية موسمها في شهر أيلول ليتم تجفيفها وتحويلها لقطّين. كما يُكثر الفلاحين من إعداد المؤَن الشتوية مثل : العدس والحمص والبرغل ، إذْ يقول في ذلك المثل "بأيلول دبّر المكيول للحمص والعدس والفول" ، "وفي أيلول تموَن لعيالك وخلي الهمّ على بالك". هذه المرحلة الانتقالية بين الصيف والشتاء بين البعد واللقاء بين الحرّ ونسائم ليله العليلة وبداية برودة الهواء والفِناء ، وفرح المزارع وأمله بالشتاء ، وخطوات التلاميذ إلى مدارسهم ، وفرحهم بالألوان والأقلام والدفاتر والكتاب ودرسهم الأول وثوب المعلمة الجديد ، هي حياتنا وإنّه أيلول بدايات العودة إلى الحياة من جديد.