القلعة نيوز-
لزعبي .. أراهن أن بعض فصول "المنسي" لن تُنسى وأن بعض العبارات الواردة فيها سيتم "بروزتها" في ذاكرة القارىء
المعاني .. المنسي..هي حالة مشتهاة عند الروائي تريد نقل الإنسان العربي من حالة التردّي إلى حالة التحدي
ال
العقبة مدينة التاريخ و الحكايا .. مدينة البحر .. و الفضاء الفسيح .مدينة ترتسم تفاصيلها ما بين حد الماء وحد الموج وحد العشق لشفاه شاعر تتنقل كلماته مابين البلد القديمة والشلالة وايله بحثا عن الناس المزروعين هناك عشقا ومحبة.. وكاتب واديب يصنع من الكلمات زهرا تغازل امواج البحر
ولأنها العقبة سيدة التنوع في فنون الثقافة واغراء الجميع في الحضور لفضاءاتها المفتوحه ومساءاتها الساهره ...كانت (الدستور) حاضرة في أمسيات المدينة الثقافية لنقل صور الابداع.. و سحر مساءات الثقافة العقباوية.. فكان الموعد هذه المره مع حفل اشهار الروائي وائل مكاحلة لروايته الثالثة ( المنسي ) بحضور ثقافي طاغي
يقول الكاتب أحمد حسن الزعبي عن رواية المنسي .. أراهن أن بعض فصول "المنسي" لن تُنسى، وأن بعض العبارات الواردة فيها سيتم "بروزتها" في ذاكرة القارىء، هذه الرواية (توريطية) بامتياز.. أي أنها تورّط القارىء ليقرأها كاملة، وأراهن أيضاً أن جلّ القراء لن يضطروا إلى تقليب الصفحات أو "التّـفشيق".. كما يحدث معنا في كثير من الروايات المنسية
و أضاف الزعبي. عندما بدأت بقراءة الفصول الواحد تلو الآخر، بدءاً بحرب البسوس إلى غزوة بغداد إلى سقوط غرناطة.. أدركت أن المنسي هو الشاهد على العصر الذي لم نشهده نحن، هو المجبول بتفاصيل التاريخ الذي كان يجب أن يكون، وذهلت من عبقرية الولوج في الفكرة.. ومحاولات "الليزك" الذي حاول أن يصحح رؤيتنا للتاريخ الذي قرأناه، كما أدهشني برشاقة اللغة والاعتناء الدقيق في اختيار التعابير والمفردات، لم ألحظ البتّة تكلّفاً في الصور.. ولا مللاً في السرد، كان مدهشاً فكرة ولغة وتسلسلاً، الى الحدّ الذي جعلني أؤمن ان العبقرية ضرب من الجنون.. كما أن الجنون ضرب من العبقرية..!
وفي تقديمه للرواية قال الناقد جروان المعاني ان الجهد المبذول لتخرج الرواية بهذا الشكل جهد هائل، لا يستطيعه إلا كاتب متمرس وأديب مطلع على تفاصيل التاريخ، مثقف قادر على تحليل الحوادث وفهم الانسان، شاعر يدري أهمية أن تأتي الكلمة في مكانها المناسب، وقد أنصف الأستاذ الإعلامي والكاتب أحمد حسن الزعبي وائل مكاحله حين قال: "أراهن ان بعض فصول المنسي لن تُنسى وأن بعض العبارات الواردة فيها سيتم بروزتها"، وإني أؤكد على ذلك حيث أكاد أحفظ بعضها فعلا.
حين تنخرط فيما يريدون تصبح مثلهم شريرا، وقد اجتهد الروائي إلى حدٍ بعيد للابتعاد عن أبطال الرواية ومراقبة أفعالهم عن بعد، ذاهبا باتجاه المخيال محاولا تجنب حرب البسوس واحتلال بغداد، وربما تمنى أن يكون نابليون عربيا كي يُحسب له الإنجاز.
و اضاف المعاني قبيل ان يقلع بروايته وينطلق طالبا ربط الاحزمة والامتناع عن الكلام، بدأ الكاتب بخط ذاكرة جديدة لجدلية الاحداث في المواضيع التي تناولتها الرواية.. كاتباً مقدمة تحتاج لدراسة مستقلة، من هو ذاك الرجل المنسي جداً (معاذ المنسي)؟.. والذي تخيلته للوهلة الاولى شبيهاً بحنظلة الفلسطيني وبالتأكيد هو قريب إلى أبعد حد من وائل مكاحله؟.. أي فن هذا الذي سخّره الكاتب الروائي ليقنعنا بروايته، لا أحد يستطيع أن يقول أنها رواية ساخرة، أو رواية سياسية أو عاطفية أو تاريخية أو رواية واقعية، أنا أستطيع القول أنها كل ذلك.
في زوايا الرواية توقفت كثيرا كي أحبس دمعتي، وتارة كي لا أضحك بصوت عالٍ، وكثيرا ما توقفت لألعن البسوس وناقتها مشفقا على جساس والمهلهل، لكنه استطاع ان يخلق عندي كراهية شديدة للملك كُليب، ولولا أنه استفاق من حلمه ليعود معاذا المنسي وأرى دمعه المسكوب حُرقة - وربما ندما - على ما رأى في منامه، وبأنه ما استطاع ان يأخذ الأحداث باتجاه السلم ليتفادى البسوس وما جرّته من تغريبة لقبائل العرب، كأنه قال إن الجاهلية ما زالت هنا.. وتعالوا ننظر ما حلّ بالعراق .
وقال الراوي الحقيقي يكتب التاريخ نثراً بجمل أدبية تتناسب وحجم إبداعه، وكم كان مدهشا في إظهار ثقافته ومعرفته للتاريخ، حتى إن الحانةِ ورقصة "البويكا" وكل شراسة البلاشفة وتوتره.. لم تمنعه من إمتاعنا بجمل أشبه ما تكون (بالفلاش باك) لفيلم احتراق بغداد، وكيف عاث بها المغول قتلا وتهديما.. مُتحدثا عن خطيئة بني العباس الذين أضاعوا هيبتهم باختلافهم وتفتيت ملكهم، ما أشبه اليوم بالامس أيها السادة السيدات.. ونحن من عاصرنا ما حلّ ببغداد ويحلّ في الشام الآن.
الراوي هنا مجنون حقا.. كيف يخرج من أوج المأساة ليُحدثنا عن عيني حبيبته وخوفه على طفلته، فيقول: "فليعلم العالم أجمع أنني لم أدخر جهدا في سبيل الدفاع عن بغداد".... لينتقل بذاكرته إلى الزمن المعاصر ويقول في حزن: "ماذا لو عرفت ماذا سيحلّ ببغداد بعد قرون؟!"..
كلنا يعلم أن العرب سمّوا حروبهم بالأيام.. حيث كانت غاراتهم تنتهي بنفس اليوم، والحقيقة أن بعض أيامهم تحولت إلى حروب استمرت عشرات الأعوام كحرب البسوس، لكن ما فعله المكاحله في روايته أنه حمل عشرات السنين على عدد من الأوراق يلخّصها في حلم مرعب .
فلو سألناه - أي الراوي "معاذ المنسي" - كيف سقطت غرناطة، لتجاوز في إجابته موسى بن نصير وطارق بن زياد وعبدالرحمن الداخل، وكل الحروب والفتن بين حكام الطوائف والولايات الأندلسية، ليقفز الى "عائشة الحرَّة" والدة آخر ملوك غرناطة "أبو عبد الله الصغير" حين قالت: "إبكِ كالنساء.. مُلكا مضاعا لم تحافظ عليه كالرجال)، فندرك حينها أن التاريخ المنسي يسكن أعماقنا فنبدو أكثر بلاهة وجبناً، وحتى عمالة من كل من خانوا وباعوا وتنازلوا حتى جثم المحتلّ على صدورنا .
تاريخنا العربي فيه الكثير من عناصر التكوين السلبية، ومع مرور الأيام ظهرت هويته مشوّهة نتيجة للثقة الزائدة بالموروثات، ولعل هذه الفكرة مستوحاة من الواقع المؤلم الذي نعيش، فنحن وإن كنا تجاوزنا حدود تمجيد شيخ القبيلة فقد دخلنا فيما هو أدهى وأمرّ، وهو تمجيد الفرد بلا سبب او مُنجز.. فقط خوفا وطمعا في مكسب ما، وما أن يدخل الروائي وائل مكاحله للحديث عن حملة نابليون.. حتى تجد نفسك وسط كمّ رائع من المعلومات عن الحملة بلغة جذابة تدفعك لإكمال القراءة، وتصل الى قول نابليون: "من أراد احتلال العالم فليبدأ بمصر"، وهو يكاد يغفر خطيئة نابليون باحتلاله لمصر لعلمه الأكيد أن الإنجليز لن يكونوا أرحم بمصر من الفرنسيين!!.. يا لهذا المعاذ المنسي كم واجه من أحداث تمنى لو غير مسارها، مع أنه كان مستمتعا وهو يخبر عن التاريخ، ويقول: "كم هو ممتع أن تخبر الجميع بأنك مستقبل بعيد .. حقبة لم تأت بعد .... أنهم ماضٍ محسوم قضى الله تعالى في أمره وانتهى"، يدرك الروائي أن الاستسلام للقدرية شوّه الهوية وأضرّ بحالة الكفاح ضد المحتل، فكانت مصر وما زالت أولى مكامن ضعف الأمة.. حقا رباه ما أوجعه من شعور.
ما الذي يريده كاتب الرواية وهو يخبرنا عن أول قصة كتبها في حياته حين كان صغير السن؟.. والتي حملت عنوان (خيول جامحة).. ولقيت استحسان أحد المثقفين الليبيين، فأخبره الأخير أن يكتب لينفّس عن وجعه، ويجيبه أنه كلما كتب غار جرح القلب اكثر؟!!
يا للعجب!.. لماذا أكثر من إشارات التعجب؟.. كيف رحل بنا بسلاسة حتى وصل "سراييفو" والحرب العالمية الأولى؟.. وكيف شكّلت الثورة اتحادا بين أعداء الغد؟.. نعم.. الراوي يمتلك التاريخ لكنه ابدا لا يستطيع تجاوز الجغرافيا إلا من خلال حلمه، وحينها أدرك سر قيام الحرب المدمرة.. فقرر ألا يعود للفشل مرة أخرى.
لكن الواقع ينفي كل قدرة لنا على تحقيق الأماني، وإلا كيف وصلنا إلى قمة الفشل على إثر نكبة فلسطين عام 1948م ؟.. كيف صارت عادته اليومية في النظر إلى المرآة ليتأكد من هندامه الذي هو دائم الحرص عليه، وهذه المرة أطال النظر لبزته الجديدة ، إنه ذاهب لخطبة الفتاة التي فقدت أمها قبل خمسة أسابيع، والتي لخصت حكاية النكبة (كيف أفرح وأمي ماتت قبل فترة قصيرة؟).. نعم كيف لها أو لنا أن نفرح ونحن يسكننا النزوح ثم اللجوء؟.. ونحن لا نمتلك الحق لدخول بيوتنا؟.. ماذا سنخبر أطفالنا عن هذا التخلي؟.. حتى نصل لقوله: "ولو كان للقدس لسان لما تحدث إلا بما تحدث به يعرب بن قحطان، لكنه قدر الأماكن أن تظلّ خرساء مع اكتمال أركان كل واقعة اغتصاب"، ثم يعود للبكاء بحُرقة لإدراكه أن الأمير قائد الثورة على وشك الموت حيث الموت مفتاح النصر، ليعود ويبشّرنا بالنصر خاتما روايته..
الأيام بيننا دول
ويوم التاريخ بألف مما تعدّون
إن هي إلا غفوة ونعود
والله سنعود
والله سنعود
فالقدس لم تمت بعد...
***
مجموعة الأحلام في رواية "المنسي.. التاريخ كما يجب ان يكون".. هي حالة مشتهاة عند الروائي وائل مكاحله، تريد نقل الإنسان العربي من حالة التردّي إلى حالة التحدي، فانظر كم مرة مرّ على المصطلحات الكبرى بمتناقضاتها (الإنتصار والهزيمة، العدل والظلم، الضعف والقوة، التضحية والخيانة، فُرقة طوائف وفتن)، لكنه لم يجرؤ على ذكر الوحدة العربية لعلمه أنها إما تحصيل حاصل، وإما شيء يستحيل حدوثه.
يا هذا المعاذ المنسي.. كم امرأة أحببت وتعلقت بها في محاولاتك لنسيان أوجاعك؟.. كيف انتهى بك المطاف لتتزوج الهزيمة والانكسار؟!...
استطاع المبدع وائل مكاحله أن يقدّم رحلته مع الذات الممزوجة بكل خراب التاريخ، مارا على جغرافيا العالم العربي الإسلامي بخريطته القديمة من جزيرة العرب، حتى بلاد المغرب وصولا إلى البلقان، فاردا عبر صفحات الرواية تأملات ووقفات مع النفس، تارة بهدوء وعنفوان وتارة بقلق مستفز وصولا للانكسار، تجده في لحظة يصف الطبيعة محتفلا بالأماكن متناسيا - وعن عمد - دور القادة في صناعة كل هذا التردي، وكل هذا الخراب الذي لحق بحياة الناس حتى خانت الطبيعة، لم يستطع وائل أن يكون وسطيا في مشاعره تجاه هذا التعب الشاسع الذي ولّده الموت في كل الحروب التي تناولها، فالبسوس حرب جرّت أذيال الفرقة حتى سكن فلسطين الأغراب.
نجح الروائي نجاحا باهرا في تهريب آلاف المعلومات والأفكار والأخبار على امتداد روايته، ودائما كان موجودا يودّ لو يوجّه الأحداث ليحصل على نتائج معاكسة لما جرى، لكنه يقرّ أننا أضعف من ذلك.. فالتاريخ لا تكتبه الأحلام، التاريخ صنعته السيوف وهمم الرجال لتخطه الأقلام، لكن الحال يقول أن أقلامنا مكسورة وحبرها مزيّف مغشوش .--
العقبة - الدستور- نادية الخضيرات-الدستور