
حلم بالحرية...
القلعة نيوز -
لقد حبا الله الأمة الإسلامية بعناصر سلامتها واستمرارها، وأعتقد جازمًا بأن هذا مرتبط بالرسالة التي تحملها هذه الأمة للأمم كافة، أبيضها وأسودها وأحمرها، عربها وعجمها وشرقها وغربها.
ولكن كيف ذلك، والأمة تعيش اليوم أيامًا تُعد الأسوأ عبر تاريخها، وهي بين أعداء وأعداء، بين أعداء بدأوا وما زالوا يكيدون لهذه الأمة، برغم ما أصابها من الأذى، ما زالوا يسعون في تشتيت صفها، وسرقة مقدراتها، وتملّك أمرها والسيطرة عليها.
لكن هل هذا حال غريب وبدعٌ من القول بين الأمم، أم هو الوضع الطبيعي؟ كلما قويت أمة تسلطت على من حولها. ألم يحدث هذا منذ زمن الرومان، والفرس، والفراعنة، والإسكندر؟ ونحن المسلمون، مع فارق واضح في مفهوم الفتح الإسلامي، طبعًا ليس هذا مكانه، وبعدها الحملات الصليبية، والحملات الاستعمارية التي بدأتها أوروبا في مرحلة متقدمة، بداية القرن الخامس عشر، وقسمت البرتغال وإسبانيا العالم الجديد بينهما على أنهما المالكتان له، بناءً على معاهدة تورديسيلاس 1494م.
وهنا يحضرني نزاع جديد على ملكية أراضي القمر والكواكب المحيطة بنا، وصولًا إلى المريخ، وصراع السيطرة الاستعمارية، والحلم الذي لم ينتهِ.
ولكن مع كل فترات الرخاء التي مرت بها الأمة الإسلامية، كانت هناك لحظات فقدت فيها أمرها، وسيطر عليها أعداؤها، ولكنها لم تفقد تلك الجذوة التي تعيد الحياة لها.
وربما خصّها الله بهذا الكتاب، الذي يحفظ عليها منهجها وبيضتها وفكرتها وعقيدتها، ويحمل تلك الجذور التي توحد أمرها وصفّها، وتؤلف بين أفرادها.
كلما مرّ الزمان، ظهر من ينهل من هذه المناهل الصافية، وهي الكتاب والسنة، ويعيد للأمة دينها، وهذا ما نص عليه الحديث الصحيح.
تتعرض الأمم بشكل دائم لهزّات ومواقف عنيفة، وما من أمة إلا وتمر بهذه الظروف. فهي أزمنة تصعد وتهبط، وتأخذ معها الأمم في طريق صاعد وآخر هابط.
ولكن في زحمة الأحداث، تحدث تلك اللحظات التي تشرح الأسباب لتلك العقول التي تُلقِي السمع، وتسعى جاهدة في النظر والتحليل والفهم، ومنهم ابن خلدون وابن تيمية.
وفي زماننا هذا، خرجت زمرة من العقول النيرة التي تسعى لإعادة الأمة إلى جادة الصواب.
وقفت مرة مع الأتراك وكمال أتاتورك، ونحن العرب نضع هذا الرجل في مكان مختلف تمامًا عن المكان الذي يضعه فيه الأتراك.
ثم بعد قراءة متأنية للأحداث التي مرّت بها الدولة التركية بعد سقوط الحكم العثماني، أدركت بأن هذا الرجل هو في نظر الأتراك السبب الرئيسي في بقاء تركيا موحدة تحت راية واحدة وحكم واحد.
نعم، سيجد البعض أن النتائج التي وصلت إليها تركيا على يد هذا الرجل سيئة، وأنه أضاع دينها وأخلاقها، ولكنه في نظر الآخرين السبب في بقائها موحدة وقادرة على العودة أمة من جديد.
وهنا أقف لتوضيح الموقف أكثر مع الحالة الصينية، وكما ذكر الباحث وضّاح خنفر في محاضرة له، مارست الدول المستعمرة قرنًا كاملًا من المهانة على هذه الأمة، وكان ذلك على يد الإنجليز والفرنسيين، ومن تحالف معهم من الدول المستعمرة، وآخرهم في الركب الاستعماري أمريكا.
وكلهم حاولوا إبقاء الصين في هذا الوضع حتى تسهل السيطرة عليها، كما كانوا يسيطرون على الهند، وحاولوا فرض حالة الانهزام والانهزامية، والسيطرة العقلية والسيطرة الاستعمارية عليهم، حتى لا تنهض هذه الأمة التي لم تمارس الاستعمار يومًا، ولم تعرف هذه المفاهيم إلا على يد الاستعمار الأوروبي الأمريكي.
وهنا عندما انتفض هذا المارد على يد ماو تسي تونغ، فرّ أزلام الاستعمار إلى تايوان، وبدأت مرحلة جديدة من الصراع الاستعماري لإعادة السيطرة والهيمنة الغربية، ومصطلح "هيمنة" هنا هو لخنفر.
أعود لأتاتورك، لأجد أن الموازنة في تاريخ الأمم تختلف؛ فهي لا تُقاس بجيل، ولا أجيال، ولا بقعة، ولا مدن، ولكن تُقاس بالأمم.
وهنا، عندما كانت القيصرية الروسية تقوى، كانت تسعى للتوسع وتحاول السيطرة على المناطق المحيطة، وهذا ما فعلته المجر، والنمسا، وفرنسا، وبريطانيا، وإسبانيا، والبرتغال، وهولندا، وحتى بلجيكا، بملكها وتاريخها الأسود في الكونغو، والذي قتل ما يقرب من خمسة عشر مليونًا من البشر، تحت التعذيب والاضطهاد والعمل في مزارع المطاط، وقطع يد النساء والأطفال والعجزة، لعدم تحقيقهم النسبة اليومية التي تُشبع طمع ملك بلجيكا من المطاط، حتى ثار الرأي العالمي نتيجة للصور المُسربة عمّا قامت به هذه الدولة المارقة الفاجرة، التي لا تعرف الإنسانية في المناطق التي احتلتها.
وليس بعيدًا عن هذه الصورة، كل هذه البلدان المتوحشة الأوروبية، والتي لم يعرف العالم لها مثيلًا في الوحشية، إلا اليابان، عندما حاولت أن تكون استعمارية مثلهم.
ولكن، ما قصة الصين هنا؟ ولماذا أتاتورك؟ وكيف تعلّم الغرب درسه وسعى لعدم تكرار الخطأ في العالم العربي؟
العالم العربي أكثر خطورة بالنسبة لهم؛ فهو قلب لعالم ينبض بالحياة، يجمعه دين ولغة، وفيه من الخيرات والثروات والسكان والحضارة والتاريخ ما يشكّل نواة وخميرة جاهزة لأي مشروع حضاري، يسعى من جديد لإعادة الروح لهذه الأمة.
وهنا تفتّق الذهن الشيطاني الاستعماري الغربي بفكرة جديدة: التقسيم، على أساس الأعراق والجغرافيا، وخلق مناطق نفوذ جديدة وسلطات جديدة، تسعى كل منها للحفاظ على نفسها وعلى من تحت يدها.
هذه المنطقة كانت مدنًا ونقاط نفوذ ومناطق، ودولًا في بعض الأحيان، ولكنها لم تكن يومًا إلا أمة واحدة.
تتحد عندما تدلهم الخطوب أو تعظم المخاطر، أو تسعى بصورة ما لصورة حضارية جديدة.
كانت نقاط القوة تنتقل من منطقة إلى منطقة، جاذبة معها كل عناصر القوة، من العلماء والرجال والسلاح والمال، ورجال العلم وصناع الحضارة.
لذلك كان ابن خلدون ينتقل من الأندلس إلى مصر، وانتقل العز بن عبد السلام من دمشق إلى القاهرة.
وهنا أعود لهذا الذهن الاستعماري الشيطاني الذي يسعى للهيمنة على الدول، وكيف أنه يتحقق له ما يريد إذا كانت هذه المنطقة دولًا مقسمة، وليست دولة واحدة، مثل تركيا أو الصين أو الهند أو حتى اليابان.
وكيف أن هذه الدول المستعمَرة، مع أنها كانت منذ الأزل مقسّمة مفرّقة، حتى في الثقافة واللغة والدين، سعت للوحدة، وفرضت على غيرها التقسيم.
وكيف أن الحرب الأهلية الأمريكية سعت لتوحيد الأمريكيتين، وذهب ضحيتها حوالي ثمانمائة ألف إنسان أمريكي، من أجل الوحدة، وهي من تفرض على غيرها التقسيم!
يدرك الغرب أن السباحة ضد التيار مستحيلة، ولها تكلفة عالية، وإمكانية النجاح فيها محدودة جدًا.
وما حاولت الحركات الإسلامية فعله، منذ لحظة تأسيسها، كان السباحة عكس التيار، ولذلك كانت تصطدم بالعديد من المعيقات، وكانت تجاربها دائمًا تنتهي بالفشل.
ولكن، هل تستطيع هذه الحركات أن تعيد تموضعها، لتصبح حركتها منسجمة مع حركة الشعوب، وتصبح محصلة القوى بالنسبة لهم واحدة، بدل أن تستهلك نفسها وقوتها وفكرها ورجالها في السباحة ضد التيار؟
الغرب ذكي وحقير وخبيث ونذل، ولكنه ككل الأمم التي مرّت على هذه الأرض، يسعى لمصلحة جنسه، والهيمنة على الآخر، وفرض ما يحقق له أعلى المكاسب.
ولكن نحن، في المقابل، نصطف مقابل بعضنا، ونتخندق ضد بعضنا، ونساعد الغرب على تحقيق أهدافه فينا بأيدينا.
ومن زعم أن الخطأ كان مرة وانتهى، ووصلت الأمة نتيجة ذلك إلى ما وصلنا إليه، هو يكرر نفس الخطأ، بالتخندق والتمترس خلف أفكاره، والتصلب وراءها، ظانًّا كما ظن الأولون أنها الطريق إلى تحرير الأمة. ولكن...
نحن نعلق من جديد في الحلقة المفرغة، ونخسر من جديد، والمنتصر هو الغرب.
أما آن لهذه الحلقة أن تنكسر، ونسعى لخلق حالة جديدة، نتمترس فيها شعوبًا وقيادات، دولًا وحكومات معًا، لنحقق معًا ما لم نستطع تحقيقه كأفراد، منذ بداية هذا القرن؟
وهذه الصورة ممكنة إذا أوجدنا حلولًا جديدة وأفكارًا جديدة، لا تأخذ من الموجود، بل تسعى لتبني على الموجود، للوصول إلى حالة جديدة، تتفق فيها الدول العربية والإسلامية، وغيرهم ممن تتفق مصالحنا معهم.
وهي صاحبة رقم صعب من حيث العدد والسكان والجغرافيا.
عندها سيجد هذا الغرب المارق نفسه محاصرًا بقوى دولية قادرة على رد العدوان، والمقاطعة، وفرض ما تريد بالقوة، وبنظام عالمي جديد لا تحكمه هذه القوى الغربية الإمبريالية المارقة.
حلم بالحرية...
إبراهيم أبو حويله