د. محمد العزة
الحديث عن تحولات الاقتصاد الأردني يستحق من الأهمية كما يحدث حول تحولات و تطورات المسار الديمقراطي السياسي. فكره، نهج إدارته و نتائجها ، تصنيفه: هل هو اشتراكي؟ ليبرالي؟ أم خليط هجين بين النمطين؟
لتبرز أسئلة عدة تستدعي أكثر من مختص في الاقتصاد والعلوم السياسية الاجتماعية والتوثيق التاريخي لتحليل تلك التحولات التي مر بها، أسبابها، أثرها على نشاط قطاعات الأعمال وفكر سلوك المواطن، العاكس لفهم طبيعة هذه التحولات ، مما يساعد على تحديد ما إذا كان الفرد الأردني مهيأً لأن يكون منتجا أم مستهلكًا داخل بيئة المناخ الاقتصادي الناتج عن تلك التحولات .
لفهم نهج و اداء الاقتصاد الوطني الاردني ، من الجدير مراجعة المراحل التي مر بها .
المرحلة الأولى: من التأسيس إلى منتصف التسعينات
شهدت هذه المرحلة بناء البنية التحتية للدولة، و نهجا اقتصاديًا أقرب إلى الاقتصاد الشمولي ذا الطابع الاجتماعي الرعوي. رسخ ثقافة الوظيفة الحكومية داخل وعي المواطن، بوصفها مصدر الأمان والاستقرار الوظيفي و المالي.
فقد تولت الدولة إنشاء الشركات والمشاريع الكبرى، من مناجم الفوسفات و البوتاس إلى الكهرباء والاتصالات فضلًا عن مؤسساتها العسكرية و الأمنية وزاراتها التي استوعبت أعدادًا كبيرة من الخريجين ، في ظل تعداد سكاني لم يتجاوز ثلاثة ملايين نسمة، بلغة الأرقام تعداد معقول ساعد في ضبط الطلب على الوظائف ، لكن بالمقابل كان بالإمكان متابعة مسار متطلبات سوق العمل و إقامة المنشآت التعليمية و التدريبة لتخريج ايادي عاملة تنخرط مباشرة داخلها ، على اي حال نجحت تلك الفترة في نشوء طبقة وسطى منتجة شكلت عماد الاقتصاد الوطني لعقود، لطالما جاء ذكرها في الخطابات الملكية و تكليفها للحكومات بواجب الحفاظ عليها و دعمها .
المرحلة الثانية: من منتصف التسعينات حتى اليوم
دخل الأردن مرحلة جديدة اتسمت بتحولات حادة فرضتها عوامل خارجية سياسية واقتصادية، رافقها تبني لسياسة برامج ليبرلة الاقتصاد ، في وقت شهدت البلاد قفزة على مستوي حجم و تنوع الديموغرافيا الأردنية ؛ فعدد السكان تجاوز اليوم 12 مليون نسمة، نتيجة عودة مئات الآلاف أثناء حرب الخليج الأولى سنة 1990، إلى جانب موجات اللجوء والعمالة الوافدة جراء ما يسمى الربيع العربي ، نافست الأيدي العاملة المحلية.
ترافق ذلك مع نمو قطاع خاص نشط في مجالات جديدة قوامها أنماط استهلاكية جديدة لم يعرفها المجتمع الأردني من قبل شجعت نمو ثقافة الاستهلاك للكماليات دون تعزيز ارضيات الدخل العام للفرد ، بالإضافة لم يتم مواجهتها بتشريعيات ناظمة و بيروقراطية تقلص من أثرها للحد و التوعية من اخطار النمط الاستهلاكي ، و طرح أفق نحو قطاع اقتصاد انتاجي متنوع المجالات ، لكن مع طغيان ذلك النمط ، صار سلوكا هو جزء من عادات المجتمع ، مما أدى إلى زيادة أعباء الانفاق لأجل الاستهلاك بدون مصادر انتاج ، ليصاب ميزان الانتاج على مستوى الفرد و الدولة بالاعتلال لصالح الانفاق الاستهلاكي .
أخطأت الحكومات المتعاقبة حين فتحت باب التوسع الجامعي دون دراسة دقيقة لاحتياجات السوق، فزاد عدد الخريجين و التخصصات المكررة المتخمة و تقلصت فرص التشغيل. كان الأجدى منح الأولوية للتعليم التقني والمهني ببرامج بكالوريوس مدتها ثلاث سنوات، تجمع بين التأهيل الأكاديمي والتدريب العملي، لتغذية سوق العمل بحرفيين و ترفده بفنيين مؤهلين ، حسب متطلبات السوق الاردني.
كما كان من الممكن توجيه السياسات لتقليص مدد المساقات النظرية، وتشجيع القطاعات التكنولوجية والمستقبلية ، يرافقها إطلاق برامج تدريب وطنية في كافة التخصصات.
هكذا برامج تخلق مخزونا من المخرجات التعليمية المواكبة لاحتياجات السوق المحلي والعالمي.
تُظهر ميزانية الدولة اختلالًا بنيويًا واضحًا؛ إذ يذهب ما يقارب 90% من الإنفاق العام إلى بند الرواتب، في حين لا تتجاوز المشاريع الرأسمالية 10%. وهذا يتطلب إجراءات و جراحة عاجلة تبدأ من خفض و ترشيد عاجل للنفقات ، اعادة هيكلة سلم الرواتب العليا ، و توجيه الفوارق نحو الاستثمار في الموارد و المشاريع الإنتاجية الحقيقية مما يسهم في رفد الخزينة وتحفيز النمو.
القطاع الخاص هو شريان الاقتصاد، ومصدر التشغيل والإنتاج، لكنه معاق ، ببيروقراطية متزمتة مرهقة، و مثقل بأنظمة ضريبية غير متكافئة.
دعم هذا القطاع عبر نظام ضريبي تصاعدي عادل، وبنية تحتية جاذبة، وحوافز حقيقية، هو المدخل الطبيعي لإنعاش الحركة التجارية وتحسين مستوى المعيشة، و إفساح المجال أكثر لمشاريع ال BOT.
في الجانب الاجتماعي، لا بد من نشر التوعية لتغيير النمط الاستهلاكي داخل المجتمع عبر ترسيخ ثقافة ترتيب الحصول على الأساسيات اولا ثم الكماليات.
تشجيع رأس المال غاية ذات أهمية عالية ، إذ أنه محرك العجلة الاقتصادية ، هو من يرفد خزينة الدولة بالضرائب، شريطة أن تحكم العملية منظومة إدارية رقابية كفؤة وتشريعات مرنة وفاعلة و عادلة .
نعلم أن الحكومات لا تملك عصًا سحرية، لكن الواقع يتكلم أن الاقتصاد الأردني يعيش نمطا اقتصادٍ رعويا منهكا تقوده الدولة عماده قطاع عام مثقل بالإنفاق وقطاع خاص مكبّل بالقيود.
الحلّ لا يكمن في رفع الرواتب فحسب، بل في خفض الرسوم والضرائب، وترشيد الإنفاق، ودمج الهيئات المتشابهة في الاختصاص، وتشجيع التعليم المهني، وتحفيز المشاريع الإنتاجية المشتركة بين القطاعين العام والخاص.
ما احوجنا إلى هوية اقتصادية واضحة، فالاقتصاد الأردني اليوم يعاني من هوية مبهمة؛ إذ يعتمد بدرجة كبيرة على اقتصاد "الراتب" الذي يظهر أثره لبضعة أيام ثم يغيب باقي الشهر ، تترقبه أعين و افئدة تهوي الى ماكينات البنوك ، لتتلقفه ايادي الأغلبية المنهكة ، لا يلبث أن يلامس كفها حتى يغادرها حيث مستقره ، على امل اللقاء من جديد ، مشهد لسيناريو يروي روتين تداول الدينار الاردني و طريقة سيره داخل سيق القروض و متاهة المصروفات و غلاء المعيشة.
لا سبيل إلى الإصلاح دون قرارات جريئة، تضع المصلحة الوطنية فوق المصالح الضيقة.
و أخيرًا: الفساد الذي يغطى بخطاب «الوطنية» ما زال ينهش الثروة العامة.
من يتحدثون كثيرًا عن الوطنية قد يكونون أول من يستغلها لشراء الصمت.
الأردن يستحق قيادة ومؤسسات تضع المصلحة العامة فوق المصالح الضيقة، وتعيد للدولة دورها في تشجيع الاستثمار المنتج وبناء اقتصاد ذو هوية واضحة، ولعل التيار الثالث الذي يجمع بين الرعوية الاشتراكية و الحرية الليبرالية المنضبطة ، يجسدها اقتصاد السوق الاجتماعي كخيار هو الأفضل و الامثل لمستقبل رسم رؤى جديدة و سياسات الدولة الأردنية الاقتصادية ، لتتبناه الحكومات القادمة نهجا لها مستقبلا .
فهل نستطيع ليظل الاردن الوطن الاقوى و الأغلى عزيزا كريما امنا مطمئنا مستقرا.




