القلعة نيوز- وصلنا «غريسا» مع المغيب، وكنا نأمل أن تمهلنا العتمة قليلا حتى نتخطى بيادر القرية وأطرافها، ونمضي صعوداً نحو أوابدها الأثرية الباقية، وقد يحالفنا الحظ فنعثر على سور المدرسة الأقدم في الطريق، ونحظى برؤية ما تناقلته الرياح في هبوبها من أهازيج تراثية وحكايا، حول ظلّ الصبي الراعي، وملامحه العالقة فوق جدارها النبطي، منذ ثمان وستين عاماً وحتى يومنا هذا.
لكننا اكتفينا بفيء السنديانة الراسخة، سنديانة الثقافة والتراث، الكاتب «محمود الزيودي»، وكان لنا من حظوة الجلوس إلى رحابة ظلّه الحقيقي، الوارف.. الشيء الكثير.
***
قيل في الأثر.. أن «سلمان المعلا» حين اندفع إلى خارج الصف المدرسي على وقع الصراخ، وراح ينظر إلى حيث تشير أصابع الطلبة الصغار في ذهول وفزع، تفرّس جيداًهالة الظلّ الكئيبة وتفاصيلها العالقة على جدار المدرسة الأولى في قرية «غريسا»، قبل أن يلتفت ويجول ببصره باحثا عن طفل صغير توقف منذ ساعات قليلة هنا، ثم استدارحزيناً يجر وراءه حسراته ويدفع بقطيع الماشية نحو الفيافي البعيدة، ليقول محاولا تبديد سحابة الذعرالراكدة فوق رؤوس الصغار: علينا أن نفهم ما يعنيه هذا الظلّ، لا أن نفزع منه..!
وقيل أيضاً.. أن هالة الظلّ الغامضة لذلك الطفل، لمْ تقوَ على انتزاعها حرارة الشمس الحارقة، أو تقدر على تفريقها عواصف الغبار الخماسينية،حتى في اشتدادها بين بيوت «العقد» المتناثرة في القرية وجدار المدرسة الأعزل، لتظلّ على احتفاظها الأزلي بلحظاته الأخيرة أمام الجدار.
أيضاً لمْ تعتدل مع مرور الوقت أو تتخفف من إطراقة الطفل الحزينة نحو عصا الرعي، المشدودة إلى قبضة يده، لحظة أدار ظهره مرغما لصف المدرسة، ومضى كاسفا نحو السهول.
ذلك الطفل وظلّه الصغير العالق على جدار المدرسة، بات حديث ، وما تلاه من تكهنات في حلقات السمر الممتدة حول مواقد النار، وليالي الشتاء الماطرة، ولأشهر طويلة، لكن أحداً منهم لمْ يجزم بمعرفة الحقيقة.
ومما تناقله الناس.. أن «عودة الرشيد» حين افتقد لرفيقه، «محمود عليوي الزيودي»، وشريكه في لعبة «المنقلة» عند سفح الطي، ولأيام عديدة، متتالية، وقف فجأة بين مقاعد الدرس بثيابه الرثّة، وأفضى على مسامع الجميع قائلا: لقد عرفت حقيقة الظلّ وما يعنيه لنا، حتى أنني عرفت صاحبه أيضاً.
***
منذ ذلك النهار، تجذّر الظلّ على تلك الهيئة، وإلى الأبد، فيما تحرر صاحبه لينجو من إطراقة الفتى المتألمة، وطفق يسابق الريح في السهوب والأودية، بين «غريسا» و»أم الصليح» وحتى حدود السّيل الكبير، على أطراف «القنية»، ثم امتطى صهوتها لغايات اعتقال الطلع، وعبق الفلوات، وإيداعها جوف قوارير صغيرة، اعتاد أن يدسّها سراً تحت ثيابه المهترئة، أو يخفيها في حاكورة الشيخ «حسن الراشد»، محاولا في الوقت ذاته تخليص الرياح من فتنة الهمس في نقل الكلام، وجلبها لأصداء الصخب الطفولي من تحت سقف الصف المدرسي في القرية، نحوه، مبقيا على فضيلة الهبوب وحدها.
حتى بعد أن انتهى به الحال أجيراً، يرعى لأخواله الماشية بين مراعي قرية «القنية» وتلالها، وحتى حدود سيل «الزرقاء» الكبير المحاذي، لمْ تكفّ الرياح عن فتنة الهمس، وحملها للصخب، وأما محاولاته فلمْ تجدِ نفعاً في ثنيها عن كل ذلك.
قيل بأنه قد هادن الرياح أخيراً، وقايض صمتها بترنيمات ناي أثري، عتيق، يعود للأنباط، فلم تعد تحمل نحوه صياح التلاميذ وهم يلهجون بالنشيد والقراءة، وأبقت على فضيلتها في الهبوب، لجلب الطلع وعطر الفلوات البعيدة إلى جوف القوارير.
***
صبيّان بثيابهما الرثّة، يستريحان أخيراً فوق أحد السفوح المطلة، في «القنية».
يسارع كل واحد منهما إلى انتزاع الشوك من باطن قدميه العاريتين، في مرح حقيقي.
يرنو الأول، بعيداً، متخطيا ببصره حدود السّيل الكبير، غير آبه بقدميه الداميتين، ثم يفضي لرفيقه، القادم من بيادر الحنطة في «غريسا»: هناك العديد من الدهشات بانتظارنا خلف هذا السّيل، وعلينا المحاولة؟
يتوجس الآخر، ويرد: في الأمر مخاطرة.. وما عليك إلا أن تعود معي، فالقرية الآن على ثقة بأن الظلّ هو ظلّكَ، وأنا من لفتَ انتباههم وبرهن على ذلك.
أما محدّثه فيمضي قائلا: سأرجع يوما، لكنني الآن قد تدبرت أمري، لا عليك.
يقف الأول، ليميط ثوبه البالي في صمت، كاشفا عن صف القوارير العطرية حول جسده الضامر، قبل أن يفترقا بعدها ولزمن طويل.
***
يتهدج صوت الطفل الحافي «عودة الرشيد»،أمام بيت الشّعْر المنصوب، وهو يسعى لتثبيت قدميه الصغيرتين أسفل قامته المرتعشة، في وقفة لن ينساها محدثه «بركة المعلا».
يترنح جسده أيضاً بين تعليقة «الشكوة» الساكنة وقدر النحاس المتفحم، بين سماء «غريسا» ورحابة الفيافي الشاسعة في قرية «القنيّة»، قبل أن تبتلع البوادي صدى صوته المنخور وهو يصيح: فرّ «محمود» بعطر الرائحة، فرّ بعطر البوادي والفلوات..!
كان لوقع الخبر فعله على الجَدّ.. «بركة المعلا»، كي يقفز إلى ظهر فرسه ويمضي دون تساؤل، مخلفا وراءه زوابع العجاج الترابية، في مشهد لا ينسى.
وبينما كان يفوح التنور بخبز الضحى، في تزامن محيّر، ليفيض بين بيوت الطين وخيمة الشيخ «المعلا» في قرية «القنية»، كان «الشيخ» يجوب السهول والتلال المطلّة على سيل «الزرقاء»، باحثا في قرارته عن طفل صغير، آخر، وقد تكسّرت على محيّاه، بذلك الوجوم، بعض ملامح القلق.
لكنه حين تخطى حدود «القنيّة» و»أم الصليح» توقف فجأة، وراح يعمم أوصاف الفتى للخلق، ثم للشجر.
تبرّمت سيدة في ردائها البدوي، كان اسمها «حمدة السالم» وأفضت بأن الرعاة في المضارب القريبة، قد لمحوا ظلاً وحيداً لفتى صغير يرنو إلى «الزرقاء»،ولا يستقرّ على حال.
لكنها أنكرت رؤيته وهي تحسم قرارها بعد تردد طويل، بينما يداها تتحسسان قارورة عطر عامرة تكاد تهب بفوح الفلوات، تحت براءة ثوبها الفضفاض.
قالت للجَدّ:فتى كهذا ربما يتصيد الدهشة في هذا الوجود، فلا خوف عليه.
***
يضحك الكاتب «محمود الزيودي» من أعماقه، ويترامى على امتداد بصره بيدر الحكايات بمقدار أعوامه السبعين، قبل أن يعتدل في جلسته المسائية أمام بيت «العقد».
قال لنا: أنا من منح السيدة وهي في عٌمر أمّي آنذاك، إحدى قوارير الرائحة لقاء حريّتي، كنتُ قد أعددتها من طلع الصباحات المتأنية وأثير هذه الفلوات.
***
أسهب في حديثه عن عوالق الدهشة الأولى، منذ أن فارق صاحبيه، «عبدالله الفليّح» و»عودة الرشيد» عند سفح الطل.قال: منحتُ ذلك المساء البعيد من أمسيات الربيع الغابرة في مدينة «الزرقاء» ثاني قواريري، كي تجود عليّ المدينة بأول الدهشات، ولمْ تبخل، فسرعان ما أخذتني إلى هالة الضياء وهي تشتعل فوق رؤوس الأعمدة، قبل أن تنشر نورها على امتداد الطرقات، قالوا بأنها مصابيح الكهرباء، ولم أكن قد رأيتها من قبل.
كان ذلك الضياء قد أنار المدينة بأكملها وشارعاً من قلبي وعقلي، فلمْ تلاحقني بعدها هالة الظلّ الكئيبة العالقة على جدار المدرسة في قريتي «غريسا»، ككل ليلة، ليقودني النور إلى رحابة العلم المشاع وأروقة الكتابة.
ثم مضى يقول: وأما الدهشة الثانية، فقد تخليت في سبيلها عن قارورة العبق الريفي، والتي جمعتها في سكون الليل وهدأة الفلوات من بيادر الحنطة، وتحديداً من بيدر الشيخ «حسن الراشد» وبئر»العلّوة»، ومنحتها للكتابة، ولمْ تخذلني حينها، لأحظى بدهشتي الثانية، وأنا أرى اسمي الثلاثي.. وهو يزيّن الجريدة.
اختارتني الكتابة رفيقا أبدياً بعد ذلك، فأخلصت لها عن طيب خاطر، وبقيت، حتى خلصتني تماما من سطوة الظلّ الكئيب، وإلى الأبد.
استفاق من شروده على عتمة المغيب، وأسند كفيّه على قبضة عصاه وقال: ثم تتالت الدهشات، من «الصين» إلى «نيويورك» و»برودواي» حي المسارح، حتى نفد مالدي من قوارير الرائحة وعطر الفلوات، وفارقتني الدهشة.
عدتُ إلى هنا بعد أن تقلدتُ أوسمة عديدة، ورفيعة، لم أحلم بها يوما، عدتُ مشنشلا بها، وبالكثير من الجوائز، كان هذا بعد تسعين مسرحية ومسلسل تلفزيوني، كتبتها وحدي.
عدتُ أبحث عن هالة الظلّ العالقة لذلك الفتى المحروم، على جدار المدرسة الأولى في قريتي «غريسا»، لأقول له بأنني ما تحررتُ منه إلا لأعود إليه.. بكل هذا.
تأخرتُ في عودتي بما يكفي لتغدو بيوت قريتي القديمة بلا سقوف.. أعرف هذا!
عدتُ أيضاً بعد رحيل «حسن الراشد»، لتظلّ حاكورة البيدرعلى حالها، ورجعتُ بعد رحيل «خلف الناصرالمعلا» و»عيد الحمدان»، بعد أن خلّفا أشعارا جميلة، وقصائد، ظلّت تحوم بيننا، حتى استقرت في نفوسناّ كغرس سماوي لا يضاهي، يرددها الناس حتى يومنا هذا وربما إلى الأبد.. لكنني عُدت.
***
بعد كل ما سمعناه في «غريسا»، وما رواه الكاتب لنا، لم يعد للسؤال الذي كان يقرع داخلنا المحتل بأقصى درجات الحيرة والفضول، أية قيمة تذكر.
فما أهمية الظلّ الكئيب على جدار المدرسة بعد كل هذا؟ وأيّ فارق سيصنعه، سواءً كان حقيقة واقعة، أم بعض خيال الشعر في قصائد «خلف الناصر»و»عيد الحمدان».
لكننا سألناه في حذر حول غايته المستقبيلة في البقاء:
أحكم قبضته على عصاه، ثم غمرنا بابتسامة صافية، وقال: سأحاول استعادة دهشتي التي لاتفنى أوتتلاشى مع الوقت.
هذه المرّة سأعثرعليها هنا، في «غريسا».. باختصار، سأعود من جديد لجمع الطلع وعبق الفلوات وأودعها قوارير عطر جديدة، ثم أنتظر.
هذا كل شيء.--الدستور