القلعة نيوز-
د. إبراهيم خليل منذ صدور كتاب تودوروف «مدخل إلى الأدب العجائبي» الذي ترجمه الصديق بو علام للعربية (الرباط 1993) ازداد الاهتمام بالأدب الغرائبي والعجائبي، على الرغم من أن فلاديمير بروب كان قد صنف كتابا بعنوان مورفولوجيا الحكاية العجائبية، وصدرت ترجمته للعربية قبل هذا الكتاب في ترجميتين، إحداهما في جدة عن النادي الأدبي، والثانية في المغرب عن الشركة المتحدة للناشرين. واللافت للنظر أن الأدب العجائبي، لا سيما في الرواية العربية، اتسع انتشاره، وشاع أداؤه، بعد بزوغ هذه الاهتمامات، حتى وجدنا كتابا يتخصصون – إذا جاز التعبير- في كتابة الرواية الغرائبية ،والعجائبية، مع تجاوز الفارق بين الغريب والعجيب. وقد وقع بين أيدينا كتاب عن « العجائبي في الأدب « (الدار العربية للعلوم- بيروت) يوحي عنوانه من النظرة الأولى بأنه ككتاب تودوروف يتحدث عن العجائبية بصفةٍ عامة، وعلى نحو أكثر تحديدا في الرواية، لوجود عنوان فرعي يشير لمنظوره السردي. غير أن القارئ ما إن يتجاوز المقدمة، والتمهيد، حتى يكتشف أنه بفصوله الأربعة، وخاتمته، لا يعدو كونه دراسة مقصورة على رواية واحدة للمغربي الطاهر بن جلون..وهي رواية « ليلة القدر « المنشورة بالفرنسية أصْلا، وبالعربية ترجَمَة، في كل من الدار البيضاء، والجزائر سنة1989. وابتداءً، يشغل المؤلف حسين علام نفسه في تعريفنا بالأدب العجائبي، والفرق بينه وبين العجيب. فالعجيب الذي يسمى عند الفرنسيين Merveilleux هو السرد الذي يقدم لنا شخصيات، وحوادث، وكائنات، تضاف إلى العالم الواقعي، دون أن تخرق تماسكه، فهو يتناول في محكيه السردي كائناتٍ متخيلة، كالساحرة التي تمكّنُ أحد الشخوص من القيام بأعمال خارقة، ونادرة، يجوز أن تكوِّن حكاية جميلة، وممْتعة، ومثيرة ، فكأنَّ القارئ في أثناء قراءته لها في جو رائق، وهنيّ، يشبه الحلم، وبذلك يتأثر بما يقرأ تأثر المرء بشيءٍ من السحر. أما العجائبي، فيختلف عن العجيب، وهو الذي يسمى بالفرنسية Fantastique والفرق على ذمة تودوروف أنَّ العجائبي، فضلا عن توظيفه للخوارق التي في العجيب من شخصياتٍ، وحوادثَ، وكياناتٍ، ينتهي غالبا نهاية مفجعة (ص48) بالموت مثلا، وتجري الحكاية فيه، والمروياتُ، في أجواء من الرعب تختتم بحادث رهيب نتيجته إما القتل، أو الاخفاء، أو المسخ. كأنْ يمسخ الأمير ضفدعا في مستنقع، أوشيئا من هذا القبيل. وتعد هذه الأجواء إحدى الخصائص التي ينماز بها العجائبي في الحكاية الشعبية الغربية. وعلى الرغم من أنَّ بعض الدارسين يرون في العجيب الأصل الذي ينبثق منه العجائبي، إلا أنَّ هذه المسألة لمّا تزل موضع خلاف. وفي العربية آثار أدبية شعبية، وغير شعبية، عرفت بالغريب والعجيب. وهذا مألوف في ألف ليلة وليلة، وقد أطلقت على ما هو عجيب وغريب في تراثنا صفات من مثل: خرافة، أسطورة، حكاية، أباطيل وأكاذيب، طرائف، ونوادر إلخ.. فالقزويني صنف كتابا سماه عجائب المخلوقات وغرائب الموجودات. ومن الكتب التي تحتفي بالغريب والعجيب عادةً كتب الرحلات، ومن أشهرها رحلة ابن فضلان، ورحلة ابن بطوطة المشهورة بتحفة النظار . على أن العجائبي والعجيب- عربيا- لم ينظر إليهما بوصفهما أدبا تعنى به الدوائر المهتمة بالأدب شعره ونثره، أوباللغة، وما كتب بها من مؤلفات. وإنما كان ينظر إليهما بوصفهما خيالات كاذبة، يهتم بها صغار القراء، والساذجون من الناس. وبذلك لم نجد لهما تصنيفا أو موقعا في نظرية الأدب كالذي نجده لدى نظرية الأدب الغربي. أما في عصرنا الراهن، وزمننا الحالي، فق انبهر الأدباء العرب ولا سيما في بلدان المغرب العربي بالعجيب، والغريب، وبالعجائبي، وبالخوارق، ودعا غير قليل من نقادهم لكسر القوالب الواقعية الجامدة، المتحجِّرة، والبحث عمن طرائق جديدة للترميز، وتمرير رسائل إيديولوجية عبر كياناتٍ، ومروياتٍ غرائبية، وعجائبية. وهذا ما دعا له صراحة محمد برادة في تقديمه لترجمة الصديق بو علام لكتاب تودوروف السالف ذكرُه. ووجدنا علاوة على النقاد عدَدَا غير قليل من الروائيين النابهين ينحون هذا النحو، كجمال الغيطاني، والطاهر وطار، وهاني الراهب، وسليم بركات، ومؤنس الرزاز في متاهة الأعراب مرة، وزرقاء اليمامة مرة أخرى. واطرد هذا النوع من التأليف، وشاع فيه التصنيف، وامتزج التاريخي بالعجائبي، كما امتزج العجائبي بالغرائبي. ومن الروايات التي حظيت بثناء المؤلف حسين علام ثناءً حمله على تخصيص الكتاب لدراستها دراسة نقدية عجائبية رواية «ليلة القدر» للطاهر بن جلون. وهو كاتبٌ مغربي يكتب بالفرنسيَّة. وقد اضطر بعد التمهيد المطول عن العجائبي لتمهيد آخر سماه إضاءة منهجية، ولا أرى إلا أنَّ هذه الإضاءة من باب التزيُّد والفضول. فكأن المؤلف يشك فيما إذا كان تمهيده الأول قد حقق غرضه الذي توخاه، فأراد استدارك ما فاته فكرَّر ما كرره من باب ترسيخ الفكرة. العنوان وقد استهل المؤلف تحليله النقدي – العجائبي لهذه الرواية بالحديث الفائض عن العنوان. مؤكدًا أن في عنوان الرواية « ليلة القدر « محمولا رمزيًا يمثل « واجهة « النص مثلما تمثل (الفترينة) واجهة العرض في (البوتيك) وهو- أي العنوان- عتبة القراءة، ومحركها الأول،الذي يرتبط وجوده بوجود القارئ. ويردِّد المؤلف كغيره من الدارسين للعنوانات، والعتبات، القول بأن هذا العنوان ينفتح على الخارج، مشيرا لعلاقته بالقرآن الكريم وسورة القدر، وعلى الداخل مشيرا لدلالات هذا الرمز في المتصوَّر الشعبي. ولا ريْبَ في أن القارئ العادي – وإن لم يكن مهتما بالرواية، ولا دارسا، ولا ناقدا – يعرف مقدما ما لهذه العبارة ليلة القدر من صلات بالثقافة الإسلامية. وما يذكره المؤلف ها هنا من باب الفضول أيضًا. على أنه لا يكتفي بهذه الإشارة، وإنما نجده يواصل الحديث عن صلات هذه العبارة بمصنفات أخرى، فلها صلة بألف ليلة وليلة، وبرسالة الغفران لشيخ المعرَّة، وبأسطورة إغريقية هي صندوق باندورا Pandora الشريرة، وبأسطورة أفروديت، مؤكّدًا أن لكل كيان من هاته الكيانات تأثيره في المتن الحكائي لهذه الرواية، لا من منظور شكلي فحسب، بل من المنظور الإيديولوجي أيضا. فعالية القصّ تلي هذه الفصلة واحدةٌ أخرى بعنوان فعالية القص، وتحت هذا العنوان يجد القارئ عناوين فرعية لا تخلو من غرابة وغموض يؤكدان للقارئ أن هذا المؤلف تأثر بعجائبية الرواية التي يدرسُ، وما فيها من غرائب. فجاء عجائبيًا في دراسته لها. فنحن نقرأ «انفلات الحكاية» و»الديباجة» وبعدهما «الحكاية الغائبة» يليه عنوان «الرواي العجائبي» - وهذا العنوان يختلف عن العنوانات السابقة لكونه وحدة بنيوية معروفة في التحليل البنيوي للسرد- ثم «الحكاية الممكنة» ثم «انبعاث الرواية من الحكاية». و»الراوي دون جمهور»: وأخيرا «المرأة والجرأة على الحكي». فكلُّ عنوان من هذه العناوين يحتاج إلى فصل خاص به. وهي، مع ذلك، إشارات مبهمة تحتاج إلى توضيحات تثبت علاقتها بفعالية القصّ. فعندما يقول المؤلف شيئا عن المرأة والجرأة، يحيلنا إلى شخصية، وعندما يقول الراوي دون جمهوره، يحيلنا إلى التلقي. وفي انبعاث الرواية يحيلنا إلى التناص . فالقارئ يجد نفسه تائها بين هذه التوجُّهات المتقاطعة تارة، والمتضاربة تارة أخرى. النموذج الثلاثي وعند تناوله للشخوص يطبق على الرواية العجائبية ما يقوله السرد عن الرواية غير العجائبية. فالنموذج الثلاثي الذي وجدناه سابقًا في دراسة حسن بحراوي بنية الشكل في الرواية، وهي دراسة لا تقتصر على العجائبي – يطبقه المؤلف ها هنا تطبيقا يوحي إيحاءً واضحًا بلا مواربة ألا فرق في دراسة الأدب العجائبي عن غيره. فالتقنيات المستعملة في التحليل الإجرائي كالمرسل، والمرسل إليه، والرغبة، والتواصل، والصراع.. والشخص الراغب، والشخص المعارض، والشخص المساند إلخ... يمكن أن نجدها تتكرر في دراسة الرواية غير العجائبية. والواقع أن المؤلف يضيف إلى هذا النموذج الإجرائي نموذجا آخر يستمده من حميد لحمداني متحدثا عن علاقات ثلاث، هي: الرغبة والتواصل والصراع.، وهي علائق لها دورها الحاسم في ضبط حركة السرد والسارد من موقف لآخر، ومن شخصية لأخرى. ويضطر المؤلف - وفقا لهذا المخطط الإجرائي - لتكرار الحديث عن الشخوص. ففي موقع يحدثنا عن الأب، أو عن الفارس، أو عن الجلاسة، أو عن الجدث، أو عن القنصل – القرين، أو العم، أو عن الأخوات، وفي كل مرة يكرر الإشارة لتلك العلاقات، مؤكدا أنها علاقات غير طبيعيّة، وعجائبية، وتمثل في جواتبها المتكررة خروقا لعالم الواقع، مع أن هذا واضح لا يحتاج لإثبات. وهذا النهج في التحليل الإجرائي يطرد في وقفته إزاء الفضاء السردي في «ليلة القدر». فهو – إذا تجاوزنا إضاءته المنهجية- يقسم الأمكنة إلى مغلق ومفتوح. وهذا تقسيم شبه تقليدي، يتخلله الحديث عن الدرب، والقبر، والمنزل، والسجن، وفي هذه المواقع لا يفتأ يلقي الضوء على ما فيها من جوانب تمثل خرقا للواقع المحسوس، وملامسة متخيلة لعالم ما فوق الواقع. ويتكرر هذا تقريبا في تحليله للأمكنة المفتوحة. كالبحر، وسطوح المنازل، والدرج، وهذا – وإن لم يكن فيه ما يفصح عن اختلاف العجائبي عن سواه – إلا أنَّ المؤلف يواصل سعيه الدائب لإبراز ما في الأمكنة من ملامح تتأبّى على التصديق، أو تضفي على السرد بعض الغموض الذي يتضارب مع الإيهام بالواقع،ويتردد القارئ طويلا قبل أن يحمل الحديث عنها على محمل الجد، ولكنه يسلم بوجودها تماشيا مع العقد الذي أبرمه مع المؤلف ابن جلون صاحب النص العجائبي. الجسد العجائبي وقد غالى المؤلف في تحميل الجسد إمارات العجيب، والغريب، وذلك ما كان قد نبه عليه وأشار إليه في الفصل الأخير، في تركيزه على الإنسان الذئب، ومصاصي الدماء، والأشلاء المنفصلة عن جسم الإنسان، وتدهور الشخوص، والاختلال السببي في الزمن. عاكفا على تتبع نماذج تتجلى فيها، بصورة واضحة، ظاهرة الانفلات من الواقع البيولوجي، والالتباس بين الكائن الطبيعي وغير الطبيعي. فالجسد تامٌ أحيانا وغير كامل أحيانا في تشكيل ملغز كالأنثى في جسد ذكر أو العكس, والتحولات التي تذكر برواية المسخ لكافكا. علاوة على التحولات التي تأتي من جهة التعازيم، والسحر، والشعوذة. وهذا ما يؤكده المؤلف في اقتباس له ينبه فيه على تواطؤ الكتابة والجسد منذ القديم، فقد ظهر في مرويات كثيرة أن أحد الشخوص يتجسد ويختفي عن الانظار إذا كان الوضع المحيط به وضعا ثقيلا دبقا، فالاختفاء يجري بطريقة عجائبية تتكرر للتخلص من الألم . وهذا يتكرر في شخصية القنصل في رواية ابن جلون. وفي شقيقته (الجلاسة) التي تتصف بتشوهات جسمية تنجيها في الغالب من الألم ذاته. وصفوة القول أن هذا الكتاب - بلا ريب- يحتل مرتبة سنية في الدراسات التي تتخذ من الأدب العجائبي موضوعا تسلط الأضواء عليه، وقضية تسعى لوضع ما يعد حلولا لمشكلات الكتابة فيه، والتلقي. بيد أن ما ينتقص منه، ويُخلُّ بشروط التأليف فيه: كثرة المقدمات، والإضاءات، وتعدد العنوانات البراقة المبهرة، والتكرار، ووفرة الأخطاء المطبعية، وهي أخطاء قد تؤدي- في بعض الأحيان - إلى اللبس، وإعاقة الفهم، وإساءة التلقي, وكان حريا بالمؤلف، وجديرا به، أن يضيف لعنوان كتابه عبارة ( ليلة القدر نموذجًا) كون العنوان في وضعه الحالي عنوانا مُضلّلا، إذ يحسب القارئ، ويظنّ، أنه كتابٌ شاملٌ للأدب السردي العجائبي، وليس مقصورًا على رواية واحدة.