
القلعة نيوز-
غارة على التراث
د. مهند غازي الزامل
فحين تقرأ كتابًا أو تُقلِّبَ صحيفة أو تُحرِّكَ مَوْقِعًا إلكترونيّا، فتّجِدَ المقولات التي تُصادِمُ النّصّ الثقافي المألوف صَراحّة، وتدعو لرُؤيَةٍ مُغايرة بالكُليّة ومصادمة تمامًا لعُرفِ الثقافة وروح التراث !
فقد يَسْبِقُ إلى ذهن القارئ أنّ هذا التعبير هو من قبيل المبالغة الأدبية الطّريفة؛ وهيَ أمرٌ ليس مُنكرًا ولا شاذًا في عادات الكتابة والتأليف، ولكنّي أراه عَيانًا بأنّه (غارة) على تراثنا وثقافتنا من بَعضِ جوانبها؛ وهي معارِكُ فكريّة تُخاضُ بين الفيْنة والفيْنة...
وإذا نَظرْتَ إلى الأمم المختلفة ذواتِ الخبرة التاريخية الكُبرى، المُتميِّزة والفاعلة في مساراتِ الوجود الإنساني الطويلة، تكادُ تُجْمِعُ على التّمسُّكِ بثقافتها وتراثها، وتعتزُّ بكُلِّ ما يَحمِلهُ العقل لهذا التراث الثقافي من عطاءاتٍ دينية وروحيّة وعقلية وفنيّة ومدنيّة، بل إنّ عامّة الأمم الكُبرى، تُضفي نَوْعًا من (القداسة) على تراثها وثقافتها؛ كمعنى إجماليّ على الرَّغمِ من كَوْنِ الكثير منه لم يَعُدْ يَصْلِح – موضوعِيّا – لفائدة عملية إبداعيّة في الوجود الإنسانيّ الحيّ...
وليس مِن شكٍّ في أنّ هذا الاعتزاز الكبير بالتراث الثقافي إنّما يَرْجِعُ لاعتباراتٍ قيِّمة عديدة وهامّة، تكّشَّفَتْ أمام العقل الإنساني المعاصر، وازدادت ثِقلًا وخطورةً كلما تعمّق هذا العقل في فهْمِ حَرَكِيّةِ التاريخ، ومنطِقِ التّحوُّلِ في مساراته الحضاريّة...
إنّ تراثِ الأمّة يُمثِّلُ في ضميرِ أبنائها بَوْتَقة مُتّقِدة؛ تَشِعُّ مُثيرات القوّة الرّوحيّة الدّافعة لأبناءِ هذه الأمّة نحوَ السَّبْقِ الحضاري والرِّفعة والوجود الرّائد في الوقع الحيّ... ثقافتنا هي تراثنا... وهي تُمثِّل حَصادِ تفاعُلنا الإنسانيّ على مَرِّ التاريخ مع الوجود كُلّه...
ولَكَ من الاعتباراتِ الهامّة؛ أنّ تراث الأمّة يُمثِّلُ حَصادَ تفاعُلها الإنسانيّ مع الدِّيانات والعقائد والفلسفات... مع الأدب والمعارف والفنون، مع الزّمن، مع الطبيعة الماديّة والجغرافية والتاريخية، مع الأمم الأخرى؛ على اختلاف مواقفها، وخصائصها...
إننا نستطيع أن ننتقدَ نتاجًا فِكريّا أو أدبيًّا أو فنّيّا أو مذهبيًّا مُعيّنًا؛ مِمّا يُمثِّل تجليات ومظاهرَ للهويّة الثقافية للأمّة عَبْرَ مجهودات أبنائها؛ على اختلاف تخصصاتهم وتوجهاتهم، وتستطيع أن تتجاوزه كذلك.. ولكنك لا تستطيع أن تتجاوز الجوهر أو المزاج النّفسي الفكري الذي يُمثِّل هويّة الأمة الثقافية إلا إذا انتزعت نفسكَ من هذه الهويّة وتلاشيْتَ في هويّاتِ أممٍ أخرى...