القلعة نيوز - كتبت البرفسورة تمارا برو .. محاضرة في الجامعة اللبنانية وباحثة في الشأن الصيني
تعوّل طهران على بكين للتغلب على العقوبات الأميركية المفروضة عليها، إلا أن الصين لا تملي على إيران أو أي دولة أخرى شروطاً أو تضغط على الدول كي تستجيب لمطالبها تحت طائلة استخدام العلاقات التجارية كسلاح ضدها.
منذ العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ومنطقة الشرق الأوسط تعيش على فوهة بركان يمكن أن ينفجر في أي وقت، فتصيب حممه مختلف دول العالم، إذ تشهد المنطقة توترات كبيرة مع ارتكاب "إسرائيل" المجازر في قطاع غزة، والدعم الأميركي اللامحدود لـ"تل أبيب"، والهجمات المتبادلة بين المقاومة اللبنانية وجيش الاحتلال الإسرائيلي، فضلاً عن التوترات في البحر الأحمر.
وتصاعدت الأحداث مؤخراً في المنطقة مع قيام "إسرائيل" باستهداف القنصلية الإيرانية في دمشق وحالة الترقب التي عاشها العالم بانتظار ما إذا كانت طهران سترد على الهجمات الإسرائيلية، وعن مكان الرد ووقته وطبيعته.
ولم تفلح الاتصالات المكوكية التي أجراها الغرب، ولا سيما الولايات المتحدة الأميركية، لثني طهران عن الرد، إذ أطلقت إيران مئات الصواريخ والمسيرات باتجاه "إسرائيل" دفاعاً عن النفس، وهي المرة الأولى التي تشن فيها هجوماً مباشراً على "إسرائيل" من أراضيها في محاولة لردع الكيان الصهيوني عن أعماله وتصرفاته المتهورة بعد فشل دول العالم ومجلس الأمن الدولي في ردعه عن العبث بأمن المنطقة.
كما هدفت طهران من خلال ردها إلى توجيه رسائل إلى واشنطن بأن صبرها بدأ ينفد، وأنها ستدافع بحزم عن سيادتها ضد من يعتدي عليها ويضر بأمنها وسيادتها.
مع ارتفاع حدة التوترات في منطقة الشرق الأوسط، سعت الولايات المتحدة الأميركية للضغط على الصين لكي تقوم بدورها بالضغط على إيران لحث حركة حماس بداية على إطلاق الأسرى ووقف هجماتها على "إسرائيل"، ومن ثم طلبت من بكين الضغط على إيران لثني جماعة أنصار الله الحوثيين عن هجماتهم في البحر الأحمر.
وفي أعقاب ضربة دمشق وعزم طهران على الرد، طلبت واشنطن من بكين التدخل لدى إيران لعدم التصعيد ضد "إسرائيل"، إلا أن موقف الصين كان واضحاً منذ البداية بأن التصعيد في الشرق الأوسط مرتبط بحرب غزة، وبالتالي يجب إنهاء الحرب بأقصى سرعة كي لا تتحول المنطقة إلى ساحة صراع وتخرج عن السيطرة. كما ترى بكين أن واشنطن هي من يمكنها خفض التوترات في المنطقة عبر الضغط على "إسرائيل" لإنهاء عدوانها على القطاع وعدم التصعيد بالرد على الهجمات الإيرانية.
شهدت العلاقات الإسرائيلية الصينية فتوراً منذ بداية طوفان الأقصى، ويرجع السبب في ذلك إلى استياء "تل أبيب" من مواقف بكين إزاء الأحداث التي تحصل في المنطقة، والتي لا تدعم "إسرائيل" وتساندها، فقد أعربت "إسرائيل" مؤخراً عن استيائها من رد فعل الصين على الهجوم الإيراني عليها لأنها كانت تأمل إدانة أقوى من بكين وإشارة إلى حقها بالدفاع عن نفسها، إلا أن الصين رأت أن ما فعلته إيران جاء في إطار الرد على استهداف بعثتها الدبلوماسية في دمشق ودعت إلى ضبط النفس وعدم الانزلاق نحو مزيد من التصعيد في المنطقة، كما دانت الهجوم الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية واعتبرته مخالفاً للمبادئ والقواعد الدولية.
دفع التصعيد الأمني في المنطقة والأضرار التي لحقت بالمصالح الصينية وخوف بكين من أن تنزلق المنطقة إلى حرب إلى أن تكثف الصين من جهودها الدبلوماسية لتخفيف التوترات. ومع ذلك تدرك بكين جيداً أنها غير قادرة على التوسط لدى "إسرائيل" لإيقاف عدوانها على قطاع غزة ومنع التصعيد مع إيران، لأن الولايات المتحدة الأميركية هي الوحيدة التي يمكنها ردع "إسرائيل".
تعتقد الدول الغربية أن بكين، وبالنظر إلى علاقتها الجيدة مع إيران، قادرة على أن تضغط عليها لمنع التصعيد في الشرق الأوسط. مما لا شك فيه أن العلاقات التجارية والأمنية بين بكين وطهران تشهد تطوراً كبيراً، كما أن الصين هي الشريك التجاري الأول لإيران وأكبر مشترٍ للنفط الإيراني.
وتعوّل طهران على بكين للتغلب على العقوبات الأميركية المفروضة عليها، إلا أن الصين لا تملي على إيران أو أي دولة أخرى شروطاً أو تضغط على الدول كي تستجيب لمطالبها تحت طائلة استخدام العلاقات التجارية كسلاح ضدها، كما تفعل الولايات المتحدة الأميركية التي تقوم بفرض العقوبات من كل حدب وصوب.
بشكل عام، الصين لا تستخدم العلاقات التجارية كسلاح، وإن كانت تقوم في بعض الحالات بتخفيف علاقاتها التجارية والاقتصادية مع الدول التي ترى أنها أضرت بمصالحها أو هددت أمنها القومي. مثلاً، بعدما قامت ليتوانيا في العام 2022 بفتح مكتب تمثيلي دبلوماسي لتايوان في العاصمة فيلنيوس، ردت الصين بحظر البضائع القادمة من ليتوانيا، إذ إن موضوع تايوان من أكثر المواضيع حساسية لها، وهي تعتبره خطاً أحمر، والتعامل مع الجزيرة يعتبر تدخلاً في شؤون الصين الداخلية.
ومن ناحية أخرى، لا تريد الصين، التي تدعو إلى السلام وتعرض وساطتها لحل الخلافات والتوترات العالمية، أن تمارس الضغوطات على الدول أو تفرض عقوبات اقتصادية، لأن من شأن ذلك أن يؤثر في صورتها عالمياً وعلاقاتها مع مختلف دول العالم ومع دول الشرق الأوسط التي تنظر إلى الصين على أنها راعية للسلام في المنطقة بعد المصالحة الإيرانية السعودية.
كما أن بكين تنظر إلى إيران على أنها الضحية، فـ"إسرائيل" هي التي اعتدت وشنّت هجمات على القنصلية الإيرانية في دمشق، وهجمات إيران على "إسرائيل" هي دفاع عن النفس، فليس من المعقول أن تضغط على إيران كي لا تُصعد في المنطقة، فيما تبقى "إسرائيل" المعتدية تسرح وتمرح من دون حسيب أو رقيب.
وبالتالي، ترى الصين أن على واشنطن أن تضغط على "إسرائيل" لمنع التصعيد وتقوم هي بالحوار مع إيران، وتدرك بكين تماماً أن طهران لا تسعى إلى التصعيد في المنطقة وتتبع سياسة الصبر الاستراتيجي إزاء كل ما تقوم به "إسرائيل" من هجمات ضدها.
وبالفعل، في الوقت الذي تتعرض "إسرائيل" لضغوطات أميركية لعدم التصعيد والرد على الهجمات الإيرانية أو أن يكون الرد محدوداً، تم التواصل بين وزير الخارجية الصيني وانغ يي ونظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان الذي أكد أن إيران لا تريد التصعيد وتسعى إلى التهدئة.
بالمختصر، يمكن لبكين وواشنطن أن يمنعا التصعيد في المنطقة بأن تقوم الصين بالتواصل مع إيران. في المقابل، تضغط الولايات المتحدة الأميركية على "إسرائيل" لإنهاء عدوانها على قطاع غزة وعدم التصعيد ضد إيران.