القلعة نيوز:
قال القضاء الفرنسي كلمته أخيراً بحق الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، وصدر ضده حكم بالسجن لمدة خمسة أعوام، بعد إدانته في قضية التمويل الليبي لحملته الانتخابية عام 2007. ويعد الحكم القضائي بحق نيكولا ساركوزي سابقة، هي الأولى بتاريخ الجمهورية الخامسة التي أسسها الجنرال شارل ديغول عام 1958، ورغم عديد الدعاوى القضائية، التي تم رفعها ضد رؤساء سابقين، فإن الأحكام لم تصل إلى السجن.
بدأت المحكمة في يناير/كانون الثاني الماضي النظر بتهم موجهة إلى نيكولا ساركوزي بـ"التستر على اختلاس أموال عامة، والتمويل غير القانوني لحملته الانتخابية، والتآمر الجنائي بهدف ارتكاب جريمة". وهذه من بين تهم كثيرة بالفساد وُجِّهت ضده، لكنه تمكن من الإفلات منها جميعاً، وعلى هذا جرى التشكيك بنزاهة القضاء أكثر من مرة، بسبب تنظيف الصفحة السوداء لعهد حفِل بالفساد، حتى أنه تفوق على من سبقه وخلفه من الرؤساء الفرنسيين.
وأعلن نيكولا ساركوزي أنه لا ينتظر "إطلاقاً" الحصول على عفو مؤكداً العمل على إثبات "نزاهته". ورداً على سؤال عما إذا كان ينتظر عفواً من الرئيس إيمانويل ماكرون، قال ساركوزي، في مقابلة مع صحيفة "لو جورنال دو ديمانش" الفرنسية نشرت أمس الأحد: "لا". وأوضح أنه "لكي يتم العفو عنك، يجب أن تتقبل الحكم الصادر بحقك وبالتالي تعترف بذنبك. لن أعترف أبداً بذنب لم أرتكبه. سأقاتل حتى النهاية من أجل الاعتراف بنزاهتي. سأنتصر".
صعد نيكولا ساركوزي إلى الرئاسة عام 2007 بعد ولاية جاك شيراك الثانية. وقد وصل إلى قصر الإليزيه بفضل تضافر عدة عوامل، الأول، استغلال منصبه بوزارة الداخلية، حيث وظف قدرات الوزارة من أجل حملته الانتخابية، ووجه الأجهزة لافتعال أحداث عام 2005 في الضواحي التي تسكنها جاليات عربية وأفريقية، من أجل استنفار اليمين العنصري، الذي كسبه إلى صفه، وصار شريكه في الحكم وحليفه تجاه الهجرة وضد الاندماج، ولذلك شكل وزارة أطلق عليها "الهوية الوطنية". والثاني الحصول على تمويل خارجي، وهنا جرى الحديث عن عدة صفقات مع الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي، وقد لحقت به تهم الحصول على مبالغ مالية كبيرة، على عدة دفعات، وهو ما كشف عنه التحقيق مع الوسيط اللبناني زياد تقي الدين، الذي توفي في سجن طرابلس بلبنان قبل ثلاثة أيام من صدور الحكم ضد ساركوزي.
وفي مايو/أيار 2012، أكد تقي الدين لوسائل إعلام أن تمويل ليبيا لحملة نيكولا ساركوزي حقيقة. وأعاد التأكيد أواخر 2016، في حديث لموقع "ميديا بارت" الاستقصائي الفرنسي عن حقائب مليئة بنقود وخمسة ملايين يورو، مُنحت في عامي 2006 و2007 لساركوزي الذي كان يشغل منصب وزير الداخلية آنذاك، ومدير مكتبه كلود غيان. وكرّر تقي الدين ذلك مراراً أمام قاضي التحقيق قبل أن يُعلن نهاية العام 2020 أن نيكولا ساركوزي لم يستفد من هذا التمويل. وفسرت بعض الأوساط الأمر وقتها بأنه تلقى رشوة من ساركوزي مقابل التراجع عن شهادته التي كان القضاء قد أخذ بها، خصوصاً وأن نجل القذافي، سيف الإسلام، تحدث عن مستندات بالتحويلات المالية، بعد أن وقف ساركوزي مع قرار إطاحة حكم العقيد من خلال حلف شمال الأطلسي (ناتو). والعامل الثالث دعم أميركي وأطلسي من أطراف يمينية محافظة وعنصرية من محيط الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن.
فساد نيكولا ساركوزي
تجاوز فساد ولاية نيكولا ساركوزي توجيه التهم من شخصه إلى المقربين منه، ومنهم مدير الإليزيه ووزير الداخلية الأسبق كلود غيان، ووزير الداخلية الأسبق بريس أورتوفو، في قضية التمويل الليبي نفسها، عندما تم فتح تحقيق قضائي في العام 2013. وفي 2021 اعتقلت الشرطة الفرنسية غيان بسبب علاوات حصل عليها بطريقة غير قانونية عندما كان يشغل بين 2002 و2004 منصب مدير مكتب نيكولا ساركوزي الذي كان وزيراً للداخلية وقتها.
الأزمة الاقتصادية والمالية التي عصفت بفرنسا، وأوروبا في العام 2008، لم تمنح نيكولا ساركوزي فرصة حقيقية لإظهار مكرماته، التي لم يَرَ الفرنسيون البسطاء منها إلا الهدايا التي تلقتها المصارف وأصحاب الثروات الكبرى في البلد، وهو ما أدى لانهيار شبه كلي في شعبيته، وأصبح معزولاً عن القاعدة التي انتخبته باعتباره مرشحاً سيخلق قطيعة مع كل السياسات السابقة.
وقد جاء التراكم في الفضائح والأخطاء والعثرات، في متوالية لا تخفى على أحد، من احتفاله الصاخب بالنصر بالانتخابات في مقهى فوكيتس الشهير في جادة الشانزليزيه عام 2007، إلى رغبته بتعيين ابنه في أكبر موقع اقتصادي بفرنسا، إلى علاقاته "الملتبسة" مع رجال الأعمال وأثرياء البلد، ومنهم الثرية الفرنسية العجوز الراحلة ليليان بيتنكور، المالكة لمؤسسة "لوريال" لمواد التجميل (أغنى شخص في فرنسا: ما يناهز 16 مليار يورو)، التي توجد لها امتدادات وتشعبات تزعزع الدولة الفرنسية. وطيلة ولايته انشغلت وسائل الإعلام بالاتهامات الموجهة إلى واحد من أهم وزراء فرنسا، وزير العمل والشؤون الاجتماعية أريك وورث، على أنه ضالع، بطريقة أو بأخرى، في الفضيحة/الفضائح التي تتناقلها وسائل الإعلام ودارت في ردهات المحاكم الفرنسية. وتتلخص الأمور في قضايا العلاقات الملتبسة بين المال والسياسة والتهرب من الضريبة.
وكشف موقع "ميديا بارت" عن معلومات تفيد بأن الثرية الفرنسية، قدمت هبات مالية لمساندة حملة نيكولا ساركوزي الانتخابية سنة 2007. وقد أثار هذا الكشف ضجة كبيرة في الأوساط السياسية الفرنسية، لأنه تزامن مع تحقيقات رسمية حول تهرب من الضرائب قامت به هذه السيدة. وذهبت الأوساط السياسية المعارضة لاستغلال هذه الورقة ضد ساركوزي، وربطت بين التبرعات التي تلقاها من جانب بيتنكور، وبين تحايلها على سلطات الضرائب. واعتبر البعض أن هناك صفقة ظلت سارية المفعول منذ سنوات عدة، يشرف على إدارتها أريك وورث الذي سبق له أن تولى وزارة المالية. وما زاد في تضخيم الاتهامات، هو أن زوجة الوزير تعمل بموقع وظيفي متقدم في مؤسسة بيتنكور. وبالتالي جرى الحديث عن زوجة وورث وسيطاً بين الطرفين، أو ضابط إيقاع للعلاقة الملتبسة بين السياسة والمال، وهو الأمر الذي يحيل إلى فساد الوسط الرسمي.
ساركوزي من الافتتان بالإعلام إلى الطلاق معه
ويعد نيكولا ساركوزي شخصية مفتونة بالإعلام، وعلى نحو خاص التلفزيون. وقد بلغ ولعه حد أنه خلال أعوام حكمه وضع يده على الإعلام الرسمي، وامتد فساده إلى هذا القطاع المهم، فأصبح يتدخل في الإعلام الخاص، يعين أصدقاءه في المراكز الرئيسية ولا يكفّ عن جلد خصومه. قصة الحب والكراهية هذه انقلبت عليه وتحولت إلى ما يشبه كمين الحقيقة. وليس من المبالغة في مكان القول إنه غادر الإليزيه عام 2012 وهو على طلاق مع وسائل الإعلام، فهذا الرجل الذي لعبت "الميديا" دوراً أساسياً في صناعة صورته وإيصاله إلى الرئاسة، عانى من تحولها في الاتجاه المعاكس، نحو تهشيم تلك الصورة، وقطع الطريق عليه لولاية رئاسية ثانية. فساركوزي الذي كان مغرماً بلعبة التلفزيون واستطلاعات الرأي أخذ يتحاشى ذلك، وصار يتجنب اللهاث وراءها. لكن الصحافة لم تدعه بسلام، ووجدت أن الفرصة سانحة للانتقام لشرفها المهدور، وذلك انطلاقاً من توظيف المعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي لم تكن في صالحه.
استأنف نيكولا ساركوزي الحكم الذي صدر ضده الخميس الماضي، وأمامه شهر واحد فقط كي يعيش حياة الحرية، قبل أن تطوق يده إسوارة المراقبة الالكترونية، التي تسمح لجهازي الشرطة والقضاء بتتبع حركته داخل التراب الفرنسي، وتمنعه من السفر إلى الخارج. وبالنسبة له يبدو الأمر ذا تبعات سياسية ومعنوية، طالما أنه عاد في الأعوام الثلاثة الأخيرة إلى المسرح السياسي، محاولاً لعب دور سياسي من داخل صفوف بقايا اليمين التقليدي. وكان في حسابه أنه يستطيع التأثير، عبر بعض الشخصيات المحسوبة عليه، ومنها من احتل مناصب وزارية خلال فترة حكمه. ولم يكن هدفه الترشح للرئاسة من جديد، بقدر ما كان يطمح لإبعاد الكأس المرة عنه من خلال مساومة الأطراف السياسية، ومنها الرئيس إيمانويل ماكرون كي يوقف المتابعات القضائية بحقه، ولكن ليس لدى الرئيس الحالي ما يقايض نيكولا ساركوزي عليه، فولايته الثانية والأخيرة تنتهي في مايو/أيار 2027، وليس بحاجة إلى دعم من أنصار ساركوزي الذين كسبهم إلى صفه في ولايته الأولى من خلال المناصب.
السجن أو تقييد الحرية في إقامة شبه جبرية، هو آخر ما كان يفكر به ساركوزي. وتشاء المصادفات أن يقع في الفخ الذي هدد خصومه به، بل حتى الذين ساهموا بصعوده سلم العمل السياسي، ومنهم الرئيس الأسبق جاك شيراك، الذي أخذ بيده عندما كان شاباً، ومنحه دفعة قوية داخل حزب "الاتحاد من أجل الجمهورية"، فصار نائباً ومن ثم وزيراً. وحينما تبين له انتهازية ساركوزي وفساده عارض ترشحه للرئاسة، بل ساند منافسته الاشتراكية سيغولان رويال التي فاز عليها. وعندما وصل ساركوزي إلى الإليزيه أراد الانتقام من شيراك، وضغط على بعض القضاة لتحريك ملفات قضائية ضده من أجل إدخاله السجن، وساوم زوجه شيراك، برناديت، وعقد معها صفقة تظهر فيها خلال مهرجانات تأييد له، مقابل أن يجمد محاولة سجن شيراك. وبالفعل خضعت لهذا الابتزاز، في وقت كان شيراك قد بدأ يعاني من ضعف في الذاكرة، وكان تلك الفترة يسكن في شقة مملوكة لصديقه رئيس وزراء لبنان الراحل رفيق الحريري.