شريط الأخبار
مسؤولون أميركيون وروس يجتمعون في فلوريدا لإجراء محادثات بشأن أوكرانيا الحملة الأردنية والهيئة الخيرية الهاشمية توزعان وجبات ساخنة في شمال وجنوب غزة "أطباء بلا حدود": أطفال غزة يموتون بردا وندعو إسرائيل لإدخال المساعدات مقتل 5 عناصر على الأقل من تنظيم داعش بالضربات الأميركية في سوريا تفاصيل أكبر صفقة غاز بين إسرائيل ومصر حسان وابو السمن يتفقدان بدء أعمال البنية التحتية في عمرة الجيش: الأردن يشارك في عملية استهداف مواقع لعصابة داعش الإرهابية النشامى في كأس العالم .... محرك حقيقي لمراكمة النمو الاقتصادي وزير الصناعة: العام المقبل سيكون نقطة تحول بعلاقات المملكة التجارية مع الولايات المتحدة الحكومة تبذل جهدا استثنائيا بتأمين منظم يحمي الأردنيين من السرطان رئيس غرفة التجارة الأوروبية بالأردن : الاتحاد الأوروبي شريك اقتصادي رئيسي للمملكة نجوم عرب يشيدون بتألق النشامى في كأس العرب ويتوقعون تمثيلا مشرفا بالمونديال غدا بداية فصل الشتاء فلكيا مجلس الأمن الدولي يمدد البعثة الأممية في الكونغو سنة كاملة أجواء باردة نسبيًا في اغلب المناطق حتى الثلاثاء 87.80 دينار سعر غرام الذهب عيار 21 في السوق المحلية اليوم تاريخ وزير الصناعة: عام 2026 سيكون نقطة تحول في العلاقات التجارية بين الأردن والولايات المتحدة ولي العهد يطمئن على صحة لاعب النشامى أدهم القرشي هاتفيا من جبل قاسيون الرئيس الشرع يوجه رسالة للشعب السوري الملك وولي العهد يباركان للمغرب ويشكران قطر على حسن التنظيم

صلاح تكتب : عمّان دحبرها دحبرها

صلاح تكتب : عمّان دحبرها دحبرها
ناهد صلاح / كاتبة مصرية
​ونحن على مشارف نهاية هذا العام، قررت أن أكتب عن المدن التي زرتها خلاله، لا بوصفها محطات سفر عابرة، بل كأماكن تركت أثرها فيّ. مدن لا تُختصر في صور، ولا تُفهم من دليل سياحي، بل من التجربة، من الناس، من التفاصيل الصغيرة التي لا تُرى من النظرة الأولى. أبدأ هذه السلسلة بالعاصمة الأردنية، عمّان، المدينة التي لا تُؤخذ من الواجهة، ولا تُقرأ من شوارعها العريضة وحدها.
أثناء زيارتي الثانية للعاصمة الأردنية في شهر يوليو للماضي بدعوة من مهرجان عمّان الدولي للفيلم الأول، ​لم تكن دعوة صديقي الناقد الكبير ناجح حسن لتناول المنسف مجرد اقتراح غداء، بل اقتراح معرفة.. قال ناجح ببساطة: "نروح دحبرها دحبرها" كأن الاسم وحده كافٍ ليحسم الأمر. كانت تلك أول مرة لي، أول "دحبرها"، وأول اختبار حقيقي لعلاقتي بالمنسف خارج الحكايات.
​في المطعم، لا شيء يدّعي الأناقة. كل شيء يقول إنه هنا لأجل الطعام فقط. المنسف جاء واثقًا من نفسه؛ لحم مطهو بلا تكلّف، جميد لا يهادن ولا يساوم على هويته، أرز يعرف دوره جيدًا. ناجح لم يتصرف معي كمرشد سياحي للمطبخ الأردني، بل كصديق يعرف أن التجربة تُترك لتفعل فعلها دون شرح. بين لقمة وأخرى، دار الحديث كما يدور دائمًا بين كاتبين: عن النقد، عن الكتابة، عن تلك المسافة الصعبة بين الفكرة ونصّها. اكتشفت أن المنسف، مثل النقد الجيد، لا يقبل أنصاف الحلول؛ إما أن يُقدَّم كاملًا أو لا يُقدَّم.
من تلك الوجبة، بدأت أفهم عمّان. مدينة تُفهم "دحبرها دحبرها"، طبقة بعد طبقة، كما يُؤكل المنسف: لا تُدرك نكهته من أول لقمة، بل من الصبر على الطهو، من المزج بين ما هو ظاهر وما هو مستتر. إنها مدينة لا تُغريك فورًا، لكنها تُربكك إنسانيًا، ثم تمكث فيك طويلًا.
​عمّان مدينة التراكم. بلا مركز واحد، بلا قلب واضح، لكنها تملك قلوبًا صغيرة موزعة على الجبال. كل جبل حكاية اجتماعية: جبل يفيض بالذاكرة الفلسطينية، وآخر يحمل ثقل العشائر، وثالث يحتضن طبقة وسطى تحاول التوازن بين القيم والضغوط.
​هذا التوزيع ليس عشوائيًا، بل انعكاس صادق لتاريخ المدينة كملاذ قبل أن تكون عاصمة. أنت تمشي في عمّان، لكنك تمشي فوق طبقات من التاريخ لم تُدفن بعد.
ترى ذلك بوضوح في قلبها: المدرج الروماني يقف بكل شموخه، رافضاً أن يكون مجرد أثر قديم. إنه قطعة من "فيلادلفيا" القديمة (الاسم الروماني لعمّان) ومركز حيوي لـ"عمّان" الحديثة في آن واحد. تجد شباباً يلتقطون صورهم على أدراجه، أو شيخاً يتخذ من ظله استراحة بعد يوم عمل. هذا التداخل بين القديم والحديث، بين الركن الروماني المتقن وفوضى السوق الشعبي المبهجة، هو الروح الحقيقية للمدينة.
​عمّان مدينة التعايش الصامت. لا تستعرض تنوعها، لا تتباهى به، بل تمارسه يوميًا دون ضجيج. في أتوبيس واحد قد تجلس بجوار موظف حكومي، ولاجئ، وطالب جامعة، وامرأة تحمل كيس خضار وتفكر في الغد. لا أحد يسأل الآخر من أين جاء، لأن الجميع جاء من مكان ما، يحمل خسارة ما. هنا، لا تُقاس الانتماءات بالشعارات، بل بالقدرة على الاحتمال.
​عمّان هي مدينة النازحين والمنتظرين بكرامة. ربما هذا هو سر تعايشها الصامت. كل ابتسامة هنا تحمل خلفها قصة سفر، أو هجرة، أو خيار صعب. إنها لا تمنح وعوداً وردية، لكنها تتيح مساحة للانتظار بمروءة ونخوة. لا أحد غريب تماماً، لأن الجميع لديه مكان آخر قد تركه.
كل ابتسامة هنا تحمل خلفها قصة سفر، أو هجرة، أو خيار صعب، وتولد قوة ناعمة تخترق الحواجز.
عمّان مدينة الناس العاديين. لا تصنع أبطالًا دراميين، بل تُراكم حكايات صغيرة عن الصبر والعمل ومحاولات النجاة اليومية. البائع الذي يبتسم رغم أثقال لا تُرى، السائق الذي يحفظ شوارع المدينة أكثر مما يحفظ اسمه، الأم التي تدير بيتها كاقتصاد مصغّر قائم على التدبير والاحتمال.
​في السوق الشعبي بقلب العاصمة، حيث تختلط الأصوات كما تختلط الروائح، كنت بصحبة صديقي الكاتب رسمي محاسنة، حين باغتني بائع الزعتر والمريمية والبُن. تفوح من دكانه رائحة الجبال والبيوت القديمة.
رفع رأسه بابتسامة جاهزة وقال بلهجة مصرية حاول أن يجعلها واثقة: "أنا مصري من الفيوم… أرض الخير ". أنصتُّ له، لا لأن الحكاية جديدة، بل لأن الطريقة كانت مسلية. اللهجة كانت تخونه؛ حرف القاف يخرج عن النص، والنبرة الفلسطينية تطل من بين الكلمات. لم أواجهه. تركته يكمل لعبته الصغيرة، تلك التي لا تؤذي أحدًا. في الأسواق الشعبية، لا يُكشف الناس بسهولة، لكن اللهجات دائمًا تقول الحقيقة.
ثقافيًا، عمّان ليست مدينة صاخبة، لكنها عميقة. ثقافتها ليست في المهرجانات الكبيرة فقط، بل في الجلسات المنزلية، في النقاشات الهادئة، في الشعر الذي يُقرأ همسًا. في جلسة مع أدباء وصحفيين أردنيين على مقهى أم كلثوم، تحت صورة كوكب الشرق، حيث حضرت القاهرة دون اتفاق مسبق. حكايات عن مسارح قديمة، وكتب عبرت الحدود، وأغانٍ صنعت وجدانًا مشتركًا. لم يكن الحديث حنينًا فارغًا، بل اعترافًا بأن المدينتين تعرفان بعضهما منذ زمن.
تفتح عينيك على صباح عمّان. الشمس تتسلل فوق جبل اللويبدة، تلون المباني البيضاء بالذهب، ورائحة الخبز الطازج تلتقي بالقهوة التركية. تمشي في وسط البلد، تصعد جبل الحسين، ترى جبل القلعة يحرس المدينة. إنها مدينة تُقاس بالدرجات لا بالأمتار؛ فكل درجة صعوداً أو نزولاً تحكي قصة عائلة عاشت هنا، صعدت ونزلت مع همومها، مما يجعل التضاريس جزءاً من ذاكرتها اليومية. تغرب الشمس، وتتحول عمّان إلى لوحة من الضوء والظل.
​تغادر، لكن المدينة تبقى معك. محفورة في الشعور، في أصوات السوق، في مذاق المنسف. عمّان لا تقول لك "انظر إليّ"، بل تقول: "عِشني". مدينة تُشبه المنسف حقًا: لا تُؤكل على عجل، ولا تُفهم من أول مرة. تحتاج أن تغوص فيها… أن تتلقفها على مهل، ثم بقوة: دحبرها دحبرها.
اليوم السابع