د. جواد العناني
من على سطح القمر نظرت إلى الكرة الأرضية، فرأيت مزارعاً امریکيا من ولاية "ميسيسبي" يزرع القطن، وآخر مثله يزرع القطن في ولاية "البنجاب" بالهند هما لا يعرفان بعضهما البعض، ولكن هذا بمفهوم السوق الدولية لا يعني أنهما لا يتنافسان، وأن قرار أي منهما سيكون له تأثير على الآخر، ولو بقدر يسير.
ولو وسعنا الدائرة أكثر من ذلك، لقلنا أن زيادة إنتاج النفط الأمريكي سيكون له أثر واسع على قرار المملكة العربية السعودية ومنظمة (أوبك)، وتجمع (أوبك+) في زیادة انتاجها أو إنقاصه.
يجب أن نميز في فكرنا وذهننا بين العولمة بمفهومها الفكري (globalism)، أو جعلها مدرسة فكرية تعكس الواقع التكنولوجي الذي نعيشه، وكيف تستفيد منه الدول المالكة للتكنولوجيا لتعظم منافعها على حساب الدول الأخرى، وردة فعل هذه الدول الأخرى على ذلك. اما العولمة بالمفهوم التكنولوجي (Globalization) فتعني أن من يطل على الأرض من سطح القمر سيرى بعد تقديم الجيل الخامس من الهواتف النقالة أن جميع المكالمات المحلية أو الدولية ستمر عبر المحطات الفضائية، وستكون كلفها قلیلة ومتساوية، بمعنى أن من يحمل الجهاز الهاتف النقال يصبح كل الناس في متناول حديثه، والمعلومات بين يديه، والأخبار عند علمه في اللحظة التي يقررها. ومن خلال الهاتف يبني صداقات، ويسدد فواتيره ، ويضارب في الأسهم في کل بورصات العالم، ويشتري ما يريد، ويتعقب سلوك ابنائه في المدارس، ويكون مواطناً دولياً محترماً أو مواطنا قرصاناً وتاجراً بالمخدرات والاعضاء.
هذه العولمة هي مفروضة علينا، وأبناؤنا وأحفادنا لن يروا وسائل غيرها. سيخزنون معلوماتهم على الهاتف، وينجزون واجباتهم المدرسية بواسطته، ويتداوون ويتعالجون بدون الذهاب للعيادة، ويشترون ويبيعون بأرقام سرية تغني عن استخدام العملة سواء آثار رسم العصفور السينائي عليها جدلاً أم لم يثره.
ونحن في الأردن، وصلنا إلى حالة مثالية مما يقوله الخالق سبحانه وتعالى في الآية (54) من سورة الكهف التي يستحب أن نقرأها كل يوم جمعة. تقول الآية "وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ۚ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا".
دعا الفيلسوف اليوناني ارسطو طاليس الم وحدة العالم، كما يقول شوقي في قصيدة "ولد الهدى"
بك يا ابن عبدالله قامت سمحة
بالحق من ملل الهدى غراء
بنيت على التوحيد وهو شريعة
نادی بها سقراط والقدماء
ولكن ارسطو تلميذ افلاطون نادى بوحدة العالم الأرضي، ودفع تلميذه ومريده الطالب النجيب "الاسكندر المقدوني ليتخرج ببحثية من أجل تحقيق تلك الغاية. والديانتان السماويتان المسيحية والاسلام أرادتا توحيد العالم تحت مظلة الدين التوحيدي، وكذلك فعل كثير من الغزاة ومؤسسي الامبراطوريات في العالم.
بعد كل هذا، تسمع من يقول لك أنه لا يعرف ان مشكلات الأردن الاقتصادية ليس ناجماً الجزء الأكبر منها عن مؤثرات خارجية، الأردن رغم حبنا العميق له ليس الإ سوقاً صغيراً في العالم، أي انه يعيش مناخاً تنافسياً ليس لصالحه لأنه يتأثر بالأحداث أضعاف ما يؤثر فيها.
ويعتقد البعض ان الحكومة تتخذ من هذا الأثر ذريعة لتبرر كل ما يواجهه الاقتصاد الأردني من مشكلات. وفي هذا المجال يقول د. مروان المعشر في مقالة نشرت في کل من القدس العربي وموقع عمون الاخباري أن المؤثرات الخارجية لها تأثير على الاقتصاد، ولكنه يدعو الى عدم الاسسلام لهذا الواقع، بل بناء اقتصاد أكثر مرونة على التعامل مع هذا الواقع. وانا معه في هذا الأمر.
ولكن حتى يتمكن الأردن من تحصين نفسه إلى اكبر قدر ممكن ضد التقلبات والهزات الخارجية، ويبني القدرة الذاتية والطاقة الاستيعابية لمواجهة ذلك كله، فإنه يحتاج إلى سياسة النفس الطويل لإدخال اصلاحات جذرية على بنية الاقتصاد وتحسين قدراته الادارية والسير المصمم علی المسيرة السياسية نحو الديقراطية، فإن علينا أن ندرك أن هذا ليس بالأمر السهل حتى عند توفر الإرادة السياسية الجامعة لعمل ذلك.
فالاصلاح السياسي والاداري سيمس مصالح كثيرين ممن هم مرتاحون في الواقع الحالي، وإخراجهم من منطقة الراحة التي ينعمون فيها، سيدعوهم للشكوى والضجر. واهمال شكواهم وصم الآذن عنها ليس بالأمر السهل.
وأما الجانب المعطل الثاني للإصلاح فهو بعض المؤسسات العامة التي تخشى من اتخاذ أي خطوة فيها مخاطرة بالأمن، بسبب كثرة المتربصين بهذا الوطن. أو الراغبين في استغلال أي ثغرة أمنية للتغلغل إلى أماكن حساسة واحراج هذه المؤسسات.. وهذا يتطلب التطبيق المتدرج العنيد، الذي یعلم بوجود سوءات، ولكنها يبطئ السير عندها حتى يتجاوزها بدون أضرار، أو بأقلها.
وأما الجانب المعطل الثالث فهو الدول المجاورة التي ترى في تحركك الديقراطي والاصلاحي تأثيراً مباشراً على منهجها القائم أو تحركها نحو الاصلاح وفق معاييرها الذاتية. وتستخدم هذه الدول نفوذها وتأثيرها عليك لتعدل من مسيرتك أو تبطؤها أو تلغيها. وقد حصل هذا الأمر عدة مرات.
وأما الأمر الرابع فهو تقلب نظرة الدول الكبرى اليك فهم في الظروف العادية متحمسون نحو الاصلاح وبيع نماذجهم الديمقراطية، ولكن إذا جاءت حصيلة الديمقراطية متناقضة مع مصالحه، ضغطوا على رأس الدولة في مصالح الدولة الأساسية لكي يغيروا مسارك أو يحرفوه، ولو مؤقتاً عن طريق الاصلاح.
أما الأمر المعطل الخامس فهو التقلبات المناخية والصحية والعسكرية والمالية في العالم، والتي تصيب اقتصادنا وكياننا وأسباب حياتنا من حيث ندري ولا ندري فيضطر المسؤول إلى وضع خطط لمواجهة الظروف الطارئة. ومن غير المعقول ان تتحدث عن تصميم بيتيك اذا اشتعلت النار فيه لاسمح الله..
لهذا في رأيي يقوم جلالة الملك بالحركة الدائمة خارجياً حتى يقلل من تعرضنا داخلياً لهذه التقلبات والتغير في الولاءات الاصطفافات وعلى الشعب ان يتعاون بالمقابل في ابداء رأيه لما يريد، ولكن دون التضحية بالأساسيات من أجل اقتناص مغانم صغيرة قصيرة الأجل.
أمامنا تحديات صعبة، وعام جديد يحمل مع الأسف وعيداً أكثر من الموعود، ولكن علينا أن نتصالح مع انفسنا، وأن نكون صادقين فيما نقوله عندما نسعى للتغلب على ضعفنا تجاه مصالحنا، خاصة عندما تتناقض مع مصلحة الوطن العليا.
والله المستعان.