الإعلام العربي بين الواقع والأحلام
د. حفظي اشتية
القلعة نيوز:
منذ النكبة الكبرى سنة
1948، لم تشهد هذه الأمة ــ رغم كثرة ويلاتها ــ صاعقة من الآلام كما هي الحال هذه
الأيام، فما حصل ويحصل وسيحصل يفوق الوصف، ولا تستوعبه العقول، ولا تقوى على تحمّله
القلوب، وتكاد تنهدّ له الجبال الرواسي، وتتوقف إزاءه حركة الزمان، وقد تمزّقت
مشاعرنا بين الأمل والألم، وتصدّعت أرواحنا بين الحنين إلى انتصار طال له
الانتظار، وبين الخوف من صدمات اعتدناها طويلا عندما ينجلي الأمر، ويجثم الليل على
نفوسنا الممزقة، ويرحل النهار.
ومما يزيد عذاباتنا هذا
الإعلام العاصف بأعصابنا، وهنا نتجاوز الحديث عن إعلام الأعداء، فرسالته عرفناها وألِفناها،
وأساليبه وعيناها وفهمناها، إنّ ما يهمنا هنا هو إعلامنا العربي، فنحن أمة واحدة،
قضيتها أيضا واحدة، وهي ــ دون مبالغة ــ أعدل قضية عرفتها البشرية، والمتوقَّع أن
هذا الإعلام العربي يكون موحَّدا تُجاهها، يسخّر كل جهوده في خدمتها، ويخاطب
العالم بصوت واحد مسموع، تتعدد فيه أساليب الخطاب ووسائل التدليل والإقناع، لكنها
تتوحد في الهدف المنشود والنتيجة المطلوبة.
ويخاطبنا نحن العرب أيضا
بلغة العقل والتحليل المقنع بعيدا عن تهييج العواطف، أو تحطيم الآمال. فهل هذا هو
واقع الحال ؟
عشرات الفضائيات
الإخبارية العربية تتخاطفنا طول اليوم، وكل يوم، لكلٍّ منها مراجعها وأجنداتها
وبرامجها وأهدافها التي تسعى إلى تحقيقها وزرعها في عقولنا، وعقولُنا المهدودة
المكدودة تتابعها فتتقاذفنا بين يأس ورجاء، وتفاؤل وتشاؤم.
ومما زاد من حدّة
معاناتنا كثرة المحللين الإستراتيجيين العسكريين والسياسيين الذين ملأوا الرحب،
وضاق بهم الفضاء، إلى الحد الذي يجبرنا أن نتساءل بحسرة وتوجّع :
إذا كان لدينا كل هذه
الخبرة العسكرية العارمة، والدهاء السياسي الألمعي، فلماذا إذن نخسر معاركنا، ولا
نتمكن من نصرة قضايانا وحل مشكلاتنا؟؟!!
نتمترس أمام الشاشات
حيارى تائهين، نبحث عن إجابات تُقنع عقولنا المذهولة، وتريح قلوبنا الكسيرة
الملهوفة، فتنهال علينا التحليلات :
هذا يحلّق بآمالنا إلى
عنان السماء، وهذا يهوي بنا لنغوص إلى الأرض السابعة، بينما أرواحنا تتهافت في
رحيلها نازلة طالعة، خافضة رافعة.
فهل يتذكر من تسنّم المنبر
خطورة أثر كلامه في نفوس السامعين، وما قد يسببه لهم من تحطيم معنوياتهم، أو زرع
الأمل الكاذب في أحلامهم؟
ها قد جنى بعضهم علينا
فخنق آمالنا حين استكثر شعورنا بنشوة النصر، بينما جنى بعضهم شعبية جارفة، ونجومية
ساطعة، وهو يخاطب الناس بما يتلهفون إلى سماعه، ويخطف إعجابهم بما تتمناه عواطفهم
الظمأى إلى لحظة عزّ مُرام بعد ذلّ مرير طال معه المقام.
لكنْ أين الحقيقة في
الواقع؟
هذا هو الذي ننشده، ونسعى
بكل حرصٍ للوصول إليه، وقلّما نجده. ومهما كانت مواجهته صعبة فلن تكون أصعب من
الواقع الذي نراه عيانا، ويبطش بنا عقلا ووجدانا.
لا نريد إعلاما يخدم
عدوّنا إذ يخذل آمالنا، ويقلل من بطولاتنا وتضحياتنا وصمودنا، ويطمس بشائر نصرنا،
ويسحق روح التحدي والتصدي فينا.
ولا نريد أيضا إعلاما يدغدغ
عواطفنا، ويغرقنا في سراب الآمال وأضغاث الأحلام، فنحلّق شاهقا دون أجنحة، حتى إذا
سقطنا ــ لا سمح الله ــ جاءت سقطتنا مدوّية فاتكة.
نحتاج إلى الإعلام
الصادق العلمي المسؤول الموزون الذكي، الذي يصف بدقة أين أصبنا ليعزز مسارنا،
ونراكم إنجازنا، ويصف كذلك أين تعثّرنا لنتعلّم من أخطائنا، وننهض من كبوتنا.
لقد أطلّ علينا ببطولة
هذه الشعب فجر جديد لطالما تاقت إليه نفوسنا، وقد لاحت حقا تباشيره، وبزغ لنا نجم
مجد عتيد رُسمت صدقا خيوطه الأولى وخطوطه وملامحه، رُغم حُلكة ليل الواقع، وقسوة
الظروف، وكثرة الأخطار الداهمة القادمة. ويجب أن نتشبّث بالأمل البارق في هذه
الفرصة النازفة الدامية الموجعة، ونتسلّح بكل ما يستثمرها للظفر بحقنا السليب، ومن
ذلك: سلاح الإعلام.
وإذا كان العرب قد عجزوا
في العصر الحاضر عن الوحدة التي تسكن أفئدتهم منذ أكثر من قرن، فليس أقلّ من أن
تكون لهم فضائية واحدة هادفة واعية، تحمل همّهم، وتدافع عن حقهم، بدلا من مئات
فضائياتهم التي تُغرقهم في كل ما يقتل وقتهم، ويشتت جهدهم، ويضيّع أجيالهم، ويكرّس
فرقتهم.