القلعة نيوز:
بقلم ابن الطفيلة الدكتور محمد طه العطيوي
محافظة الطفيلة الهاشمية ليست كبقية المحافظات؛ فلا منفذ بحري يطل على الافق، ولا حدود تربطها بدولة مجاورة، ولا مطار يقرب المسافات بينها وبين غيرها. تقع في اقصى الجنوب، بعيدة عن العاصمة وعن مراكز القرار وتعد من اقدم مواجع التنمية، ذلك الوجع الذي لم يلتئم رغم تغير الحكومات وتبدل السياسات.
ولم تكتفي الطفيلة ببعدها الجغرافي كي تثقل دربها، بل بقيت ايضا على مسافة من الخط الصحراوي الحيوي؛ ذلك الطريق التجاري الذي يربط الشمال بالجنوب ويغذي المحافظات بالحركة والاستثمار. بينما ظلت الطفيلة خارجه، كأنها تقف على حافة الطريق تتفرج على قوافل التنمية وهي تمر دون ان تتوقف عندها.
في الطفيلة ، ينام اهلها على الامل ويستيقظون على الوعود. وعود تتكرر منذ عقود، تتبدل الحكومات ولا يتبدل الواقع. كل حكومة تأتي تعلن خططا كبيرة ومشاريع قيد التنفيذ، لكن ما ينفذ لا يتجاوز اللافتة والاعلان. مشاريع كثيرة بدأت ولم تكتمل: طرقات ما زالت ترمم منذ سنوات، مباني وضعت لها اساسات ولم تكتمل جدرانها، و المنطقة الصناعية بقيت مجرد فكرة على الورق. الطفيلة تعيش بين ما يقال وما لا يتحقق، بين الكلام الجميل في المؤتمرات و الاجتماعات والواقع البائس في الميدان.
منذ سنوات طويلة، يواجه اهالي الطفيلة واحدة من اعلى نسب البطالة في الأردن. شباب انهوا دراستهم في الجامعات، لكنهم ما زالوا يحاولون مع كل اعلان توظيف. البعض غادر الى محافظات اخرى، والبعض الاخر سافر خارج البلاد، يبحث عن فرصة تنصف جهده، عن افق لم يجده هنا. كثيرون يرحلون بعيون دامعة، تاركين خلفهم محافظة يحبونها. وفي المقابل، تمتلئ مقاهي الطفيلة بالوجوه المتعبة، بشهادات مؤطرة على الجدران تنتظر توقيع عقد عمل لا يأتي.
الوجع في الطفيلة لا يطرق باب الشباب وحدهم، بل يدخل البيوت كلها بثقل لا يحتمل. في كل بيت ام تخفي قلبها المكسور خلف فنجان شاي تعده لابنائها الباحثين عن فرصة تغير مصيرهم، وتخبي دمعتها في طرف عينها كي لا تربكهم وهم يخرجون الى يوم اخر من الانتظار. وفي كل بيت اب يجر خيبته على مهل، يخفيها عن اطفاله كما يخفى الالم تحت الملابس الثقيلة، يعود الى بيته وفي يده تعب وفي صدره ضيق، لكنه يبتسم كي لا يرى احد حجم الانحناءة التي تركها الزمن على روحه. وفتاة درست حتى انطفأت، حملت شهادتها كأنها امان من الغد، ثم وقفت امام واقع قاسي جعل حلمها يذبل قبل ان يكتمل.
ثم يأتي الفقر ليضع يده فوق هذه القلوب، فقر يسرق البسمة من الوجوه، ورواتب لا تكمل الشهر، وايام ثقيلة لا يخففها الا صبر الناس. فقر يجعل العائلة تعيد حساب ما تملك قبل ان تشتري حاجاتها، ويجعل الاب يعتذر بصمت، والام تغطي نقص البيت بكلمة طيبة، والاطفال يكبرون قبل اوانهم لان الحياة علمتهم معنى العوز منذ الصغر. انه الفقر الذي لا يختبئ؛ يرى في العيون المتعبة، في الموائد البسيطة، في الثياب التي ترتق اكثر مما تشترى، وفي الدعاء الذي يرتفع من قلب كل ام واب يريدان لابنائهما ما لم يستطيعا تحقيقه لانفسهما.
الطفيلة محافظة بمصانع محدودة، لكنها ما تزال بلا شركات كبرى تحتضن طموحات ابنائها .المدينة الصناعية التي بشر الناس بها منذ اكثر من عقد لم تنهض كما وعدوا، والاستثمار ما زال يمر من حول الطفيلة دون ان يدخلها. القطاع الخاص نادر، والوظائف الحكومية محدودة، والبطالة تلتهم الاعمار كما تلتهم الرياح الرمل في الصحراء. حتى المشاريع الصغيرة التي بدأت بأمل توقفت بسبب غياب الدعم والمتابعة.
والاقسى من كل هذا، ان الطفيلة لا تذكر الا حين يقترب موعد زيارة رسمية. فجأة تنظف الشوارع، وتطلى الارصفة، وتعلق اليافطات التي تقول "اهلا وسهلا". تضاء المدينة ليوم واحد، تلتقط الصور، توزع الوعود الجديدة، ثم حين يغادر الموكب، تطفأ الأنوار، وتعود الطفيلة الى عزلتها الطويلة، كأن ما حدث لم يكن الا مشهدا تمثيليا في فيلم. هذا ما يوجع الناس اكثر من الفقر نفسه: ان يشعروا ان حضور مؤسسات الدولة في حياتهم مؤقت، وان الاهتمام بهم مشهد اعلامي لا اكثر.
ومع مرور السنوات، ادرك اهالي الطفيلة ان الانتظار لم يعد يجلب الفرج، وان الاعتماد على الذات هو الطريق الوحيد للبقاء واقفين. قرروا ان يصنعوا الحياة بأيديهم، بخطاهم الصغيرة واحلامهم الكبيرة. صار التطوع فيهم لغة انتماء، في الجمعيات والمبادرات والهيئات و المراكز الشبابية، يعملون بصمت يجمعون ما تفرق من طاقة وامل ليبنوا منه ما يشبه الحياة. شباب يملؤون الفراغ بالحركة، ينظمون حملات بيئية وتوعوية و سياحية، ويقيمون ورشات تدريبية وتعليمية لاطفال القرى البعيدة. نساء يحولن زوايا بيوتهن إلى مشاريع صغيرة تزرع معنى الاكتفاء.
ولان الطفيلة لا تعرف الاستسلام، خرج ابناؤها من حدودها الضيقة نحو الافق الواسع. شاركوا في المؤتمرات الوطنية والاقليمية والعالمية، تحدثوا باسم مدينتهم، باسم الجنوب، باسم الاردن. قدموا نماذج تليق بتاريخهم وصبرهم، فحصد بعضهم الجوائز، وكتبت عنهم الصحف قصص نجاح تروى بفخر، واستضافتهم الشاشات والاذاعات ليتحدثوا للعالم ان في الطفيلة وجها اخر لا تراه الكاميرات: وجه يصنع المجد من التعب، والفرص من اللاشيء.
ومع ذلك، يبقى الوجع الاكبر في نكران بعض الذين صعدوا منها ثم ابتعدوا عنها. كثيرون من ابنائها تقلدوا مناصب عليا، رفعوا اسم الطفيلة يوم احتاجوه، ثم تناسوه حين جلسوا على الكراسي. نسوا الشوارع التي كانوا يسيرون فيها، والبيوت التي فتحت لهم الابواب، والناس الذين صدقوا وعودهم. الطفيلة لم تطلب منهم مالا ولا مصلحة، فقط تريد أن يتذكروها، ان يردوا الجميل بالوفاء، لكنها خذلت.
ورغم كل ما تعانيه المحافظة، لم تفقد الطفيلة قدرتها على الحلم. تحلم جامعة الطفيلة التقنية بأن تصبح نموذجا اكاديميا حديثا يليق بطموحات طلبتها، ببنية تحتية مكتملة ومختبرات مجهزة بالكامل . ويحلم ابناء الطفيلة بمنح دراسية عادلة، اسوة بمحافظات الشمال والوسط، تتيح لهم الدراسة في الجامعات الحكومية الاخرى او في جامعة الطفيلة نفسها.
ويحلم الناس بمركز صحي شامل اسما على مسمى، وبطريق امن يصل القرى ببعضها، وباستثمارات حقيقية تحيي المدينة الصناعية وتعيد اليها الحياة بعد سنوات من الجمود. ويحلم ابناء العين البيضاء منذ سنوات طويلة، ان يروا منطقتهم لواء اداري كما وعدوا مرارا. ففي عام 2012 تم اقرار استحداثها لواء بشكل رسمي، غير ان ثلاثة عشر عاما مرت دون تنفيذ فعلي او متابعة واضحة، ليظل القرار مؤجلا في الادراج، والحلم حاضرا في وجدان الناس الذين ما زالوا يؤمنون ان الانصاف، وان تأخر، لا بد ان يأتي.
وتتطلع الطفيلة الى استعادة وجهها السياحي المشرق الذي خفت بريقه رغم ما تملكه من كنوز طبيعية وتاريخية فريدة. من ضانا التي تجمع بين صمت الجبال وسحر الطبيعة، الى حمامات عفرا وبربيطة و شلالات المشلشلة و مجهود التي تنبض بالحياة وتتفجر من قلب الارض دفئا وعلاجا، ومن السلع وقلعة الطفيلة التي تختزن ذاكرة التاريخ، الى القرى التي تحتفظ بروح الجنوب الصادق. وتبقى الطفيلة تحلم بأن تتحول مشاريع طاقة الرياح التي تعانق جبالها الى منفعة ملموسة لاهلها، بتخفيض عادل لفواتير الكهرباء التي انهكت العائلات.
الطفيلة ليست فقيرة بالقيم ولا قليلة بالعزيمة. اهلها يعرفون معنى الانتماء الصادق. ولاؤهم للعائلة الهاشمية راسخ في القلوب، وايمانهم بالاردن لا تهزه الظروف، حتى حين تتعبهم السياسات وتعاندهم الايام. لانهم يرون في القيادة الهاشمية امتدادا لصبرهم، ويؤمنون ان العدل لا يغيب مهما تأخر.
هذه هي طفيلتنا ، تقف عند حافة الصبر كل يوم؛ يحيط بها الفقر الذي يضيق انفاس اهلها، وتثقلها البطالة التي تخنق طموحات شبابها، وتطاردها الديون والقروض التي تحولت في بيوت كثيرة الى هم يومي لا ينام.
ولعل هذا المقال لا يستطيع ان يحيط بكل القصة، ولا ان يحمل كل الوجع، لكنه يحاول ان يكون صدى صادق يخرج من صدور البسطاء: لعل هذا الصوت يبلغ صانعي القرار في عمان، ليعلموا ان هناك محافظة تدعى الطفيلة
طفيلتنا ان غضبت فغضبها حق، وان صمتت فصمتها شموخ، وان تكلمت فصوتها يجب ان يُسمع.




